أبدأ حديثي عن الشاعرة والكاتبة المسرحية الأمريكية إدنا سانت ڤينسنت ميلاي بعدة تساؤلات حول حياتها التي أثارت جدلًا كبيرا فيالوسط الثقافي الأمريكي:
هل حياة الكاتب أو الشاعر الشخصية وميوله واتجاهاته الاجتماعية والسياسية والجنسية لها تأثير في نجاحه في حياته العملية ؟ هل يختلف الغرب عنا في تقييم و وضع أحكام مطلقة على نجاحهم في حياتهم العملية بناءً على حياتهم الاجتماعية وميولهم واتجاهاتهم فيالحياة ؟
بدأت كتابتي بتلك التساؤلات نتيجة لقراءاتي العميقة عن حياة فينسنت العملية والشخصية و سيرتها الذاتية فوجدت أن سمعتها قد طغت لفترة على قيمة أعمالها الشعرية والمسرحية ومشاركتها السياسية الفعالة في فترة ما من حياتها حيث كانت ثنائية الجنس Bisexual ولهاالعديد من العلاقات مع الرجال والنساء كما أنها كانت مدمنةً على المورفين ، وذلك أثَّر على مسيرتها وشعبيتها بالولايات المتحدة الأمريكية، حتى اهتمام الشعب الأمريكي انحصر في تلك الناحية الخاصة من حياتها غير آبهٍ بمنتجها الشعري والمسرحي ، واستمرت هذه النظره والاتجاه المُعادي لها لفترة معينة حتى نجحت ڤينسنت في إثبات وجودها في حياة الشعب الأمريكي السياسية والاجتماعية وانقلب ذلك العداء إلى حب واهتمام وشعبية كبيرة حظيت بها تلك الشاعرة الموهوبة في الوسط الثقافي الأمريكي
وإدنا سانت ڤينسنت ميلاي أو ” ڤينسنت” كما كانت تحب أن يُطلق عليها ، تُعد من أكثر الكُتَّاب البارزين في أدب القرن العشرين كماكانت رمزًا للمرأة العصرية المتحرِّرة في بدايات ذلك القرن .
وولدت ڤينسنت في بروكلاند ماين بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٩٢ على يد أم مُطلَّقة مكافحة ساعدتها على صقل موهبتها الأدبية وكتابة الشِّعْر منذ كانت طفلةً وشجَّعتها أيضا على تعلُّم المسرح والبيانو كما كانت تتحدث ست لغات.
نشرت ڤينسنت قصيدتها الأولى في مجلة سانت نيكولاس للأطفال عام ١٩٠٦ أي كانت تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا وبعد تخرُّجها في مدرستها الثانوية بقيت في المنزل عدة سنوات وفي خلال أربع سنوات نشرت خمس قصائد في سانت نيكولاس ولكن قصيدة ” النهضة” Renascence كانت بمثابة نقطة تحوُّل محورية في حياة ڤينسنت بعد انضمام القصيدة إلى مسابقة كبيرة باسم ” أغنية العام ” The Lyric Year ولاقت إعجاب المثقفين حينذاك ورُشِّحت من أحدهم للالتحاق بكلية ڤاسار و في العام نفسه (١٩١٧) نشرت كتابها الأول ” النهضة وقصائد أخرى” Renascence and Other Poems عام ١٩١٢ وانتقلت بعدها إلى قرية جرين ويتش بولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية حيث أصبحت لها مكانة بارزة في الوسط الثقافي الأمريكي ، وفي عام ١٩٢٣ حازت جائزة البوليتزر عن كتابها” أغنية حائك الڤيتارة” The Ballad of the Harp-Weaver’’.
كانت ڤينسنت محط الكثير من المعجبين في الوسط الأدبي كالشاعر والكاتب الأمريكي فلويد ديل Floyd Dell (١٨٨٧-١٩٦٩) والشاعرالأمريكي آرثر داڤيسون فيك Arthur Davison Ficke (١٨٨٣-١٩٤٥) وإيدموند ويلسون Edmund Wilson(١٨٨٣-١٩٤٥) حيث تقدم للزواج من ڤينسنت لكنَّها رفضت لخوفها من قتل طموحها بالانغماس في الحياة المنزلية ، وتزوجت بعد ذلك من رجل الأعمال الهولندي يوچين چان بويسفين Eugen Jan Boissevain الذي دعَّمها في آرائها النسوية وعاشت معه في منزلٍ كبيرٍ منعزلٍ في سفوح بيركشايربولاية نيويورك.
لاقت ڤينسنت نجاحًا كبيرًا أيضًا بوصفها كاتبة مسرح حيث كتبت الأوبرا الشعبية ” الملك هينشمان” King’s Henchman عام ١٩٢٧.
اللهجة الحادة التي كانت تتمتع بها بعض قصائد ڤينسنت بخاصة التي كانت تتناول موضوعات سياسية شائكة في ذلك الوقت ، ودفاعها عن حقوق المرأة والتعاطف مع المنكوبين والضعفاء في هذا العالم ، جعلها رمزا وأيقونة لشباب عصرها ، حتى أنها تبرعت من عائد قصيدتها ” العدالة مرفوضة في ماساشوستس” Justice Denied in Masschusetts’’ للدفاع عن ساكو و فانزيتي Sacco and Vanzetti وتقدمت لحاكم الولاية للدفاع بنفسها عنهما في عام ١٩٢٧.
طبيعة ڤينسنت الفكاهية الساخرة ظهرت أيضا في بعض قصائدها التي تحدثت فيها عن مشاعر الشباب في فترة ما بعد الحرب وعن تمردهم على التقاليد وشعورهم بالحرية.
إنَّ نغمة السخرية والفكاهة في شعر ڤينسنت كانت تتسم بالأناقة وعدم التجريح؛ وذلك أضفى نوعًا من النضوج والتشويق لكتاباتها الشعرية التي تمثَّلت فيها تلك النغمة الساخرة.
وقورنت ڤينسنت بالشاعر الأمريكي الشهير روبرت فروست Robert Frost (١٨٧٤-١٩٦٣) ؛ لأنها تشابهت معه في إتقان الشكل الشعري التقليدي ”السوناتات”، كما أنها نجحت أيضا كروبرت فروست في دمج الحداثة و الكلاسيكية في بناء وشكل ومضمون قصائدها الشعرية.
وفي خطابٍ لها عام ١٩١٢ ، كتبت أنها قرأت للكثير من الكُتَّاب الكبار وتأثرت بهم مثل الكاتب والشاعر الإنجليزي الشهير ويليام شكسبير William Shakespeare (١٥٦٤-١٦١٦) و الشاعر الإنجليزي جون ميلتون John Milton (١٦٠٨-١٦٧٤) والشاعر الإنجليزي ويليام ووردزوورث William Wordsworth (١٧٧٠-١٨٥٠)و الروائي والكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز Charles Dickens (١٨١٢-١٨٧٠)وهنريك إبسن Henrik Ibsen (١٨٢٨-١٩٠٦) وذكرت في خطابها هذا أكثر من خمسين كاتبًا آخرين.
وتدور تيمات قصائد ڤينسنت الشعرية حول الحُب و المناظر الطبيعية حتى أنها كانت تمتاز بمسحةٍ صوفيةٍ رُوحية Spiritual mysticism في وصفها للجمال خصوصًا جمال الطبيعة مثل الجبال والتلال والشمس والسماء وغيرها، حتى أنها تحدثت عن تجارب الصحوة الداخلية التي قد تحدث للإنسان نتيجة التعرُّض إلى صدماتٍ وأزماتٍ نفسية وعبرت في قصائدها الشعرية أيضًا عن آلام وأوجاع كل من يعاني في الحياة ، كما تحدثت عن الموت وتطورت موضوعاتها الشعرية بعد ذلك من التحدث عن الحب والطبيعة إلى التحدث عن آرائها النسوية والسياسية بجرأة و وضوح في قصائدها الشعرية.
أما عن أسلوب ڤينسنت الشعري ، فقصائدها غنائية رومانسية تمتاز بالكلاسيكية والتقليدية حيث كانت رائدة السوناتات في القرن العشرين ، وبظهور الحداثة Modernism التي تبنَّاها أكبر الشعراء مثل تي. إس. إليوت T.S.Eliot (١٨٨٨-١٩٦٥) والشاعر الأمريكي إزرا باوند Ezra Pound (١٨٨٥-١٩٧٢) والشاعر الإنجليزي الأمريكي ويستن هيو أودن W.H. Auden(١٩٠٧-١٩٧٣) انطفأ وهجشعر ڤينسنت وغيرها من الشاعرات اللاتي تبنَّين الشَّكل التقليدي للشِّعْر وربما قد أشعل ذلك ؛ فتيل النجاح عند ڤينسنت واسترجعت قيمتها بوصفها كاتبةً وشاعرةً موهوبةً وكتبت قصائد مختلفةً عن موضوعاتٍ مختلفةٍ عن ذي قبل ، تحدثت فيها عن آرائها النسوية و الحريةللمرأة ضد قيود المجتمع الأمريكي حينذاك وتحدثت أيضا عن مناصرة الراديكالية Radicalism (من الكلمة اليونانية Radix وتعني الجذر ) إلى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر الميلادي وهي حركة سياسية تؤيد الإصلاح، وتحدثت أيضا عن المباديء الإنسانية المثالية لكنًّها ظلت محتفظةً بالشكل التقليدي للقصيدة الشعرية ( السوناتات)، وبرغم تبنِّيها الشَّكلَ القديمَ للقصيدة الشعرية ؛فإنها كانت تمتاز بالبساطة والسلاسة والعذوبة ، فلم أشعر بالملل أو الصعوبة في قراءة قصائدها، لكنني شعرت بالمتعة العقلية والروحية الحقيقية أثناء قراءتي شعرها ، الذي يخاطب القلب والروح ويدعوك بعفوية تامةٍ إلى التأمُّل في جمال الطبيعة و المخلوقات لذلك عُرفت بوصفها أشهر شاعرة غنائية في الوسط الثقافي الأمريكي في القرن العشرين ، وتوفيت ڤينسنت عام ١٩٥٠ بولاية نيويورك إثر إصابتها بسكتةٍ قلبيةٍ تاركةً إرثًا أدبيًّا مختلفًا ومُشرِّفًا للمجتمع الأدبي الأمريكي.
على تَلٍّ بعد الظُّهرِِ (Afternoon on a Hill)
سأكُونُ أسعَدَ شَيءٍ
تحتَ الشَّمسِ.
سألمَسُ مائَةَ وَردَةٍ
ولن أقطُفَ واحِدَةً.
سأنظُرُ إلى المُنحَدَراتِ و السُّحِبِ
بعِينيْنِ هَادِئَتيْن.
راقِبِ الرِّيحَ وهي تَنحَنِي على العُشبِ،
والعُشبُ يرتفعُ.
وعِندَمَا تَبدَأُ الأضوَاءُ كشْفَها
في المَدِينةِ
سأُحدِّدُ ما يَجِبُ أن يَكُونَ مِلكي
وسأبدأ
ــــــــــ
رثاءٌ (Lament)
اسمَعُوا يا أطفَالُ:
لقَد ماتَ والِدَكُم
ومن مَعَاطِفهِ القَدِيمَةِ
سَأصنَعُ لكُم سُترَاتٍ صَغِيرَةً؛
سَأصنَعُ لكم بَنطُلُونَاتٍ صَغِيرَةً
من بَنطُلونَاتِهِ القَدِيمَةِ.
سَتَكُونُ في جُيُوبهِ
أشيَاءُ اعتَادَ أن يَضَعَهَا فيها.
مَفَاتِيحُ و دَرَاهِمُ
مُغَطَّاةٌ بالتَّبغِ.
لا بُد أن يَحصُلَ دان على الدَّرَاهِمِ
في البَنكِ.
لا بُد أن تَحصِلَ آن على المَفَاتِيحِ
لإحداثِ بعضَ ضَجيجٍ.
يجِب أن تستَمِرَ الحَيَاةُ،
ويُنسَى المَوتَى.
يجِب أن تستَمِرَ الحَيَاةُ
حتَّى لو مَاتَ الرِّجَالُ الطَّيِّبُونَ.
آن، تَنَاوَلي فَطُورَكِ.
دان، خُذ دوَاءَكَ.
يجِب أن تستَمِرَ الحَيَاةُ
فقط نَسَيتُ كَيف.
ـــــــــ
حُزْنٌ (Sorrow)
يَدُقُّ الحُزنُ على قَلبِي
كالمَطرِ الذي لا يَتَوَقَّفُ.
يَتَلَوَّى النَّاسُ من الألَمِ يصرُخُونَ-
سَيبْلَغَهُمْ الفَجرُ مرَّةً أُخرَى؛
هذا ليسَ فيهِ زِيَادةٌ أو نُقصَانٌ
لا يَتَوَقَّفُ و لا يَبدَأُ.
يَرتَدِي النَّاسُ ملابِسَهُم
يَذهَبُونَ إلى المَدِينةِ.
أجلِسُ على كُرسِييٍّ.
أفكَاري بَطِيئةٌ و سودَاوِيةٌ:
أقِفُ أو أجلِسُ
أو ما الثَّوبُ أو ما الحِذَاءُ
الذي سأرتَديِه ،
لا يَهُمُّ كثِيرًا.