لا يكتسب الخطاب السياسي قيمته فقط من خلال قدرته الحجاجية، أو قوته النظرية، أو بنائه المتماسك، ولكن، أيضا، وأساسا، من قابليته الاختزال في كلمة أو مصطلح يشخص من خلاله المراد إيصاله وتحصيله، وممارسة التأثير من خلاله على الآخرين لكسب المزيد من التأييد، لدى أصدقائه، والاستنفار ضد أعدائه. ولكي يكون لهذا المصطلح المنتقى بعناية كل هذا الأثر لا بد من أن تكون له شرعية يستمدها من تاريخ مبني على ممارسة طويلة، من جهة أولى. وأن تسنده قوة اقتصادية وعسكرية، من جهة ثانية. وأن يوسم به العدو السياسي في لحظة ذات خصوصية من الصراع، تتطلب الانتقال من القول إلى الفعل ثالثا. ويؤدي كل ذلك في النهاية إلى توفير الإجماع ضده عن طريق ترسيم ما يلصق به في لائحة يشترك فيها مع غيره ممن يراد مواجهتهم في ضوء ذاك المصطلح أخيرا.
لقد اختزل مشركو قريش صراعهم ضد الرسول (ص) في زعمهم أنه “صبأ” عن الدين المعترف به لديهم. كما أن الدولة الإسلامية والكنيسة المسيحية كانت تستعمل “الزندقة”، أو ممارسة السحر، لمواجهة خصومها ومعارضيها. وفي العصر الحديث صار “أمن الدولة” أو “الأمن القومي” المصطلح الذي يرفع في وجه كل من يراد تنحيته والقضاء عليه. وكانت كلمة الإرهاب المبرر الذي كان يوظفه الاستعمار التقليدي لمواجهة أي مطلب من مطالب الحرية والاستقلال. إن هذه الكلمات ذات طبيعة مؤسسية، تتصل بالدولة، ومن هنا تكتسب شرعيتها التاريخية في مقابل ما تستعمله الحركات المناوئة للدولة من كلمات تدور في فلك: الخروج، التمرد، الثورة، وما شاكل ذلك من المصطلحات الدالة على رفض الواقع القائم، والمطالبة بتغييره. وبذلك يمكن أن نعاين أن التاريخ تحركه “كلمات” يعطيها كل طرف من أطراف الصراع الدلالة التي تناسب موقعه ومصلحته.
هيمنت في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كلمة “الثورة” وما يتصل بها لتكون أداة تغيير العالم لمواجهة الرأسمالية من جهة، والاستعمار التقليدي من جهة ثانية. ومع سقوط المنظومة الاشتراكية حلت محلها كلمة “الإرهاب” التي رفعتها أمريكا لمواجهة أي تحد تراه يهدد أمنها القومي على الصعيد العالمي. ولم يكن الإرهاب سوى الصفة التي باتت توجهها ضد الإسلام بصفة عامة، والذي صارت تختزله في الحركات الدينية المتطرفة من القاعدة إلى داعش.
لقد ساهمت أمريكا والصهيونية في خلق ظاهرة التطرف الديني، وبعد أن وظفته في صراعها ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، صارت تتخذه مبررا للتدخل في الشرق الأوسط، وممارسة المزيد من الهيمنة على مقدراته وموارده الطبيعية. وكان للاختيار الذي سارت عليه الجماعات الدينية المتطرفة من خلال أعمالها التخريبية أثره في استفحال الصراع، واستهداف الإسلام بصورة عامة رغم كون الكثير من البلاد الإسلامية ظلت معرضة للأفعال التخريبية عينها. وكان بذلك أن احتلت كلمة “الإرهاب” موقعا خاصا في الصراع في المنطقة، وصارت الكلمة توظف ليس فقط من لدن أمريكا والغرب في مواجهة أي حركة مناوئة، بل إن بعض الأنظمة العربية، سوريا مثلا، لم تر في المطالبة بالخبز والكرامة والحرية سوى عمل إرهابي واجهته بتقتيل المواطنين وتشريدهم، واعتقال الآلاف منهم. صار الإرهاب كلمة السر التي توجه لكل من يعارض أو يحتج، أو يرفع السلاح في مواجهة آلات العسف والظلم والقهر.
منذ حدث طوفان الأقصى اتخذت كلمة الإرهاب جوهر الصراع ضد القضية الفلسطينية. فالمقاومة الفلسطينية، وقد اختزلت في حماس لم تبق حركة تحرير كما كانت في منتصف القرن الماضي، ولكن مجموعات إرهابية هدفها المس بأمن إسرائيل وسيادتها على أراضيها. وكان أن استنفرت الصهيونية وأمريكا حلفاءهما في العالم أجمع لتدمير غزة، وممارسة إبادة الجماعية والتطهير العرقي. فما هو الفرق بين ما أقدمت عليه الصهيونية وأمريكا منذ أربعة شهرا في غزة والضفة الغربية، وما قامت به القاعدة وداعش منذ تأسيسهما؟ وما هو الفرق بين التطرف اليهودي الصهيوني، والتطرف الديني الإسلامي؟ وما علاقة كل منهما بالإرهاب؟
إذا كانت منظمات “الجهاد الإسلامي” المختلفة، منذ الثمانينيات، تسعى إلى “استعادة” الخلافة الإسلامية، و”تطبيق” الشريعة الإسلامية، وقد اختطت لها طريق العنف الذي عارضه المجتمع الإسلامي برمته لأنه ليس الطريق المناسب للتغيير، ولأنه دال على فكر متخلف لا علاقة له بالعصر، ولا بشروط تحولاته العميقة، ويحق لنا فعلا نعتها بالإرهاب، ماذا يمكننا أن نقول عن التطرف اليهودي الصهيوني الذي يرمي إلى بناء “الدولة القومية اليهودية”، و”استعادة” إسرائيل الكبرى؟ وإذا كانت الحركات الإسلامية قد قامت بتفجيرات واغتيالات، ماذا يمكننا القول عن التدمير الممنهج الذي تقوم به الصهيونية ومعها أمريكا في غزة؟ ما الفرق بين الحركات الإسلامية المتطرفة، ونظيرتها الصهيونية التي لا تمارسها فقط حركات يمينية متطرفة، ولكن يقوم بها المستوطنون أيضا، وتدعمهم في ذلك الدولة الصهيونية وأمريكا والغرب برمته؟ أين “الإرهاب”؟ وأين “الترهيب”؟
يجمع المسلمون دولا وشعوبا على أنهم ضد التطرف الديني الذي تمارسه جماعات معزولة عن المجتمع العربي والإسلامي، فلماذا كلما كان الحديث عن الإرهاب يكون الاقتصار على هذه الجماعات الإسلامية، ولا أحد يدين أشد وأخطر أشكال الإرهاب الذي تمارسه الدولة الصهيونية الموجه ضد شعب له قضية. أم أن إرهاب هؤلاء حلال؟