لا يمكن للمرء إلا أن يتفاجأ، وهو يتابع بين الفينة والأخرى، ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي حول الإسلام والقرآن الكريم والحديث النبوي في هذا الوقت بالذات من اهتمام متزايد، ومشترك، ومتضافر، وكأن الإسلام لم يظهر إلا بالأمس القريب. كنت أتصور أن المواقع بالعربية هي وحدها التي تهتم بهذا الموضوع، وإذا بي أجد مواقع فرنسية تسير بدورها في الاتجاه نفسه الذي يرمي إلى تقديم صورة مختلفة عما هو معروف ومتداول منذ أزمان عن الإسلام والنص القرآني. وغير بعيد عن هذا المسعى نفسه، بدأت تظهر مواقع تركز على شخصيات وملل ونحل عرفت في التاريخ الإسلامي بخروجها على ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية. وإلى جانبها مواقع أخرى فرنسية تنصب اهتماماتها على المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين دافعوا عن الإلحاد وعدم الإيمان. بل حتى من يعودون إلى التاريخ القديم باتوا يؤكدون بأن التوراة والإنجيل ذات أصول في الثقافة المشرقية لبلاد الرافدين. والأغرب أن كل هذه المواقع تقدم لنا نفسها أنها تكتشف أشياء جديدة، وأن ما تطرحه حقائق كانت مخفية، أو أن ما يشيعونه معرفة جديدة لم يسبق إليها أحد من الباحثين قبلهم.
قادتني هذه المواقع إلى استنتاج أن هناك حملة موجهة ومقصودة، وأن اعتمادها وسائل التوصل الاجتماعي ليس إلا بهدف جعلها متداولة عل نطاق واسع. إن ما أعرفه جيدا أن الأفكار الجديدة، والاكتشافات العلمية تقدم في المجلات الأكاديمية المعتمدة، وتنسب إلى باحثين لهم تجربة طويلة في الميدان الذي يقدمون فيه خلاصة أعمالهم. ولكن أن تجد شخصا، عربيا أو أجنبيا، لا علاقة له بالموضوع، وليس له اختصاص محدد معروف به في الأوساط العلمية يدعي أنه يقدم شيئا جديدا، بخصوص الإسلام، والقرآن الكريم، والتاريخ الإسلامي، فليس هذا في رأيي سوى تطفل على الموضوع، ومحاولة يائسة للترويج لبضاعة مزجاة، وأن من يصدقها لا علاقة بالفكر النقدي، ولا بطرح الأسئلة عما يصل إليه من خلال هذه الوسائط التي باتت للأسف الشديد مطية لكل من هب ودب.
إن المتابع الجيد لهذه المواقع والفيديوهات يكتشف بعد معاينة ما تقدمه أن لها مصدرا واحدا تعود إليه، وأن كل واحد منها يحاول أن يبني عليها ما يريد الترويج له. وأن الاختلاف الوحيد بينها، رغم أن كل واحد ينسب لنفسه قصب السبق فيما يدعيه، هو فقط في النبرات التي يتميز بها بعضهم عن غيرهم، أو الجرأة التي تصل حد الوقاحة في إبلاغ تصورات لا تصمد أمام النقد الموضوعي.
ما يجمع بين هذه الدعاوى هو تأكيدها أنها تكتشف نصوصا جديدة، أو أن هناك ما يثبت علميا، أن القرآن من تأليف الرسول (ص). بل هناك من يذهب إلى أن هناك محمدا آخر غير محمد النبي. والأدهى من ذلك هناك من يذهب إلى أن الرسول لا وجود له نهائيا. إنهم في كل هذه الدعاوى التي لو سلمنا أو اقتنعنا بها، لأمكننا التشكيك في كل شيء، ونوسع دائرته ليشمل كل ما وصل إلينا من التاريخ ليس فقط العربي أو الإسلامي، بل والتاريخ الإنساني أيضا.
كان طه حسين أذكى من كل هؤلاء المدعين عندما انطلق من قضية الانتحال في الشعر العربي ليقول إن الشعر الجاهلي لا وجود له. إن هذا القول يمكن أن يبني عليه هؤلاء ما يدعونه من أباطيل ليؤكدوا بها تأخر تدوين القرآن الكريم والحديث النبوي، ويكون ذلك مدخلا للتشكيك في الأحاديث النبوية والقرآن الكريم. وهذا فعلا ما يعتبرونه مدخلا للتشكيك في صحة القرآن والحديث معا دون التمكن من ملامسة الشعر العربي، وهو قبل النبوة. لكن طه حسين تراجع عن دعوته، وأقدم على ما يناقضها في حديث الأربعاء، وهو يقدم تحليلا داخليا لهذا الشعر. ويمكن لأي كان أن يعود إلى ما وصل إلينا على أنه الشعر الجاهلي منسوبا إلى أسماء بعينيها، ويقوم بقراءته، منطلقا من «الشك» في هذا الشعر، أو من المنهج التاريخي لإثبات او نفي وجود الشاعر الجاهلي، أو غيره من المناهج، وأتحداه أن يثبت أن هذا الشعر كله منحول، أو أن ما ينسب إلى شاعر معين لا علاقة له به.
إن العرب القدامى الذين تفطنوا إلى النحل في الشعر العربي، وانتقدوا بعض الرواة، هم من طينة حفظة القرآن الكريم ورواة الحديث النبوي. لقد انتبهوا، ودققوا واتهموا، وحققوا المتن القرآني والحديثي، وظلوا طوال التاريخ الإسلامي يمحصون، وينتبهون إلى ما يثير لديهم السؤال حول قيمة النص الذي وصلنا.
لماذا لا يعود هؤلاء الباحثون المستكشفون إلى الشعر العربي قبل الإسلام، ويؤكدون لنا من خلال الوثائق والمخطوطات والوجادات التي ينفردون بها عن المجتمع العلمي حول عدم صحة هذا الشاعر، أو ذاك، أو الزعم بأن هذا الشاعر سرق ما قاله عن اليهودية أو النصرانية، أو أنه كان متأثرا بملحمة جيلجاميش مثلا؟ علما بأن اليهودية والنصرانية كانتا منتشرتين في الجزيرة العربية.
إن الدعاوى المبنية على أي تاريخ لا يمكنها إلا أن تكون تأولا لماذا يريد المدعي إثباته. لماذا كل دارسات المستشرقين التي يعتمدها هؤلاء تعتمد على التاريخ الموازي أو الخارجي للنص القرآني؟ ولماذا يمارسون المقارنات مع النصوص الخارجية التي يجدون لها حضورا في النص القرآني. إن عدتهم الفيلولوجية، ناقصة، ومبنية على التأويلات التي يمكن توجيهها حسب الرغبة، وليس تبعا للطبيعة النصية في ذاتها.
إن قراءة النص القرآني أو الحديثي أو حتى الشعري حين لا تتأسس على ما نسميه التاريخية الداخلية للنص تظل رجما بغيب ما تقدمه لنا المادة التاريخية الخارجية. أما القراءة التاريخية الداخلية فهي تنطلق من النص من داخله قبل أي انتقال إلى ما هو خارجي. وأي نص له تاريخيته الخاصة، وله أنموطه الذي يتأسس عليه، ولا سيما حين يكون ذا مستوى يجعله يخاطب الإنسان، وله رسالة يريد إيصالها إلى أي شخص، مثل الخطاب الديني. انطلاقا من هذا التحديد نجد أن القرآن الكريم يتحدد أنموطه، كما يبدو لي، في قوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام». وتبعا لذلك فإن كل الأنبياء مسلمون، وأن اللاحق منهم مصدق بمن سبقه، وبما أتى به من آيات بينات، أو كتب. وأن الله لم يكن ليعذب قوما ما لم يبعث إليهم رسولا. وأن القرآن الكريم لم يخبرنا عن كل الأنبياء الذين بعثهم على أقوامهم.
نعاين بجلاء في كل هذه المعطيات التي يجليها لنا القرآن الكريم ما يؤكد لنا الترابط الحاصل بين مختلف الأديان، والأنبياء والرسل، في علاقتها بمختلف الأمم والشعوب. ويبدو لنا ذلك واضحا في كون الإنساني مشترك بين الناس جميعا كيفما كانت معتقداتهم، وخصوصا ما اتصل بوجود الله، واليوم الآخر. أما ما خلا ذلك فإنه متصل بتواريخ الأمم، ومدى محافظتها على ما أوحي إليها. ما أسهل القول بأن القرآن استقى بعض آياته مما نجده في التوراة، والقرآن نفسه يؤكد ذلك. ما أسهل أن نقول إن في القرآن كلمات غير عربية، واللغات الإنسانية كلها تقترض من بعضها. إن الدراسات الجديدة في الإنسانيات واللغة تثبت زيف ومحدودية الدراسات الفيلولوجية التقليدية.