ـ من اليسراوية إلى الأمازيغوية مرورا بالإسلاموية: هل هي أزمة وعي ديمقراطي؟ أم هيمنة وعي متأخر؟ ـ
وجدت كل ما أكتبه عن القضايا النظرية في السرد، والثقافة، وغزة لا يلقى بالا من لدن بعض المتابعين، بالمقارنة مع أي إشارة إلى الأمازيغية، أو طرح السؤال بصددها للتفكير. ينبري بالتعليق كثير من الدعاة، وتابعيهم بإحْقاد، في أمور الدين، والتاريخ والجغرافيا يتمحلون الدفاع عن الأمازيغية، ويثبتونها مستبعدين كل ما هو عربي من أي من الإنجازات التي ينسبونها إليهم، وهم منها براء. لا أريد وصف تعليقاتهم بأي نعت، لأن إناءهم بما فيه يرشح.
سأظل دائما أومن بالتعدد والاختلاف في كل شيء، وأرى الأمازيغية جزءا من التراث المغربي والعربي ـ الإسلامي الذي لا أعتز به من باب التفاخر، ولكني أعمل على الدعوة إلى الاهتمام به، والبحث فيه وتطويره. ومجلة «الثقافة الأخرى» التي أشتغل فيها مع نخبة من الزملاء الذين ينطق بعضهم بالأمازيغية دليل على ذلك. ويشاطرني في هذا الكثير من المثقفين ذوي الأصول الأمازيغية العقلاء، والذين لا علاقة لهم بهذه الفئة من صيادي الإعجاب يوميا، وكأن لا عمل لهم إلا ذلك. أثمن دائما ما أنجزه عمر أمرير، وأقدمه قدوة لمن يريد البحث في التراث المغربي بالدارجة أو الأمازيغية. كما أنني أدافع عن البرامج التلفزية التي اهتمت بهذا التراث، وأدعو إلى تدوينها كتابة لتبقى قابلة للدوام، ما دامت تلك البرامج زائلة. إنني أهتم بتراث كل الأمم وأعتبر ذلك إضافة لتكويني وتطويرا لهويتي الشخصية والثقافية. كما أنني أشرفت على الكثير من الرسائل والأطاريح التي تبحث في التراث الأمازيغي. الهوية الحقيقية هي الهوية الثقافية التي بها يتميز الأفراد والجماعات والأمم، وهي اختيار، ولا علاقة لها بالجينات والادعاءات، وهي تتحقق بالإنجاز الثقافي الحقيقي لا بالصراخ والعويل.
ليست للمغاربة مشكلة مع اللغة أو الثقافة الأمازيغية. لكن المشكلة الرئيسية هي مع كل من يفكر أنه يدافع عن شيء ما، وهو يهاجم غيره بالكلام الساقط والنابي، والذي يعبر عن الجهل الفظيع، وإن ادعى العلم، وعن الهوى المريض، وإن ادعى العقلانية والعلمانية. لماذا لا يُرى في الدستور إلا كلمة أمازيغي، أين هي باقي المكونات التي يتصدرها المكون العربي ـ الإسلامي؟ فلماذا يتم إلغاؤه بدعوى تجديد الدين، وإعادة كتابة التاريخ؟ العلماء والباحثون هم من يجدد ويعيد. حقِّقوا لنا قرآن بورغواطة، وجدِّدوه، وأعيدوا كتابة تاريخ الأمازيغ، وسندعمكم في ذلك. أما استغلال وسائل التواصل للهجوم والتشويه فلا احترام فيه للدستور، ولا لمكونات الهوية المغربية، ولا للوطنية.
لا أفرق هنا بين الناشط الأمازيغي، والشيخ، والعلماني. إن خطابات هؤلاء جميعا، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، يثيرون البلبلة، سواء وعوا ذلك أم لا، وسواء عملوا ذلك مسخرين من جهات معينة، أو لأسباب ارتزاقية، ما داموا يخوضون في قضايا كبيرة بجهل فظيع، وهم ليسوا أهل اختصاص.
أشبه الدعوة الأمازيغوية، لدى بعض «الناشطين» اليوم، بالدعوة إلى الاشتراكية في السبعينيات لدى العدمية اليسراوية. إنها قضية نخبة معزولة وشاذة، قد يكون لها أمل في تغيير الواقع، لكن ليس في جعبتها غير القدح والشتم، ولا مصلحة لها إلا في التفرقة. وهذا غير خاف، اليوم على أحد في زمن العولمة والاصطفافات، وخلق الكيانات، والأذرع، والحروب بالوكالة، والمرتزقة. لقد فشلت الدعوة إلى الاشتراكية بسبب عزلتها عن هموم الشعب اليومية لرفعها شعارات أممية، ولهجومها على معتقدات الشعب. وهذا دأب هؤلاء.
لقد كان اليسار، ينطلق من هموم الوطن، ولكنه تابع للمنظومة الاشتراكية مرددا خطاباتها المعزولة عن الواقع المغربي. لذلك كان التراث الذي خلفه اليسار إيديولوجيا، ولم يكن مبنيا على فهم للواقع، ولذلك لا يعود إليه اليوم أحد. ويمكن قول الشيء نفسه عن النزعة الأمازيغوية. إنها بلا تراث يعطي للقضية بعدها الوطني. إنها إيديولوجيا دعوية، ولذلك فأصحابها لا يقومون إلا بالتجييش، وإثارة النعرات العرقية، وهم يقومون بذلك عن طريق استنساخ ما خلفه المستشرقون والاستعماريون، وما تروجه الصهيونية علانية، وهي تفضح من يتكلم باسمها، وينفذ أوامرها. فما هي مشكلة هؤلاء مع العرب والعربية؟ إذا كانت مشكلتكم مع اللغة العربية فلا تكتبوا بها، ومع الدارجة لا تنطقوا بها، ولن يمنعكم أحد من الدفاع عن خطاباتكم في اليوتيوب بالأمازيغية، أو الكتابة بها. ما سمعنا في المغرب قط تهجما على أحد يتكلم بالأمازيغية. وإذا ما قال أحدهم إنه، وهو طفل، كانت تحتقر لغة أمه عندما يتكلم بها. ألم يكن هذا جاريا ومتداولا حين تتم السخرية ممن جاء من «العروبيا» وتكلم بالدارجة في المدينة، أو تحدث بالفاسية في المناطق البدوية؟ تتحدثون عن النكات عن أهل سوس، وتجعلونها قصة القصص؟ ما هو عدد النكات عن العروبي، واليهودي، والدراوي والفاسي؟ ألا يتداول هذه النكات نفسها الأمازيغيون، وغيرهم، عن أنفسهم، والكل يضحك منها في المجالس بلا ضغينة، أو كراهية؟
إذا كانت عندكم مشكلة مع الدولة أو الحكومة فهي مُشكَّلَة من كل أطياف المجتمع المغربي منذ الاستقلال، وكان لمن هم من أصل أمازيغي موقع متميز. إن الدعوى العرقية القائمة على الهجوم بذريعة الدفاع لا تختلف في جوهرها عن التطرف الديني الذي باسم الإسلام يمارس التكفير.
إن مثل هذه الدعوات معزولة عن الواقع، وهي حبيسة الواقع الافتراضي. أما الواقع الحقيقي عندما تخرج إليه فستجد مشاكل سكان القرى الأمازيغية وغيرها من المناطق المغربية لا علاقة لها بتمزيغ التاريخ والجغرافيا، والجينات. إن من دمره الزلزال في حاجة إلى سكن، ومن هُدِّم محله في دور الصفيح لإزالتها ينتظر التعجيل بتسلُّم بيت. وقس على ذلك كل الحاجات الحيوية والضرورية لحياة المواطن المغربي من الخبز إلى الأسعار، ومن الصحة والتعليم إلى البطالة والهجرة، واللائحة طويلة. لا تختلف الأمازيغوية عن اليسراوية. حلم القوميون بوطن عربي موحد لمواجهة الإمبريالية والصهيونية، لأن الاستعمار مزق الوطن العربي، واستغل خيراته، وعمل كل ما في وسعه لإبقاء التفرقة، وإدامة التخلف. وحلم اليسار العربي الجديد بوحدة الشعوب العربية، والديمقراطية لأن الدول التي ادعت الوحدة تحولت إلى ديكتاتوريات تقمع شعوبها، وكان الهدف بناء دولة موحدة في مواجهة التكتلات الكبرى.
لو أن هؤلاء الأمازيغاويين انتقدوا الواقع السياسي العربي الحديث، وقدموا رؤية جديدة لبناء مجتمع جديد له موقع في العالم، لانخرط معهم الجميع في ذلك، لكنهم ظلوا يهاجمون «القومية» العربية، وأضافوا إلى ذلك الإسلام. فبماذا استبدلوهما؟ بعرقية تدعي الصفاء الإثني، وبأديان وثنية لما قبل التاريخ. ما الفرق بين القومية والعرقية؟ أليست القومية أرقى تاريخيا ومعرفيا. وكل الدول الحديثة وحدت القومية كل أعراقها، وجمعتها لغة كتابية واحدة تتعدى كل اللغات واللهجات التي ما تزال قائمة فيها، أليست الأممية المنفتحة أرقى من العشائرية الضيقة؟ ما الفرق بين اليمين المتطرف في الغرب، والنزعات العرقية في الوطن العربي؟
متى كانت العرقية مطروحة في التاريخ المغربي؟ ولماذا لم تطرح أبدا رغم ادعاءات «الثورات» البربرية التي لم تكن تختلف عن «الثورات» التي كانت تقوم بها القبائل الأعرابية ضد الدول المتعاقبة تاريخيا؟ كانت الصراعات تارة بين كل القبائل بغض النظر عن لغاتها، وكانت التوافقات الوحدوية طورا، لمواجهة العدو الخارجي. تاريخ المغرب الحقيقي تحقق مع الفتح الإسلامي الذي صنع جغرافيته التي شاركت فيها ساكنته بصدق وإيمان. إن المقارنة بين العربية والأمازيغيات وهم كبير. المقارنة السليمة بين اللغات، بالدوارج العربية، واللغات الأمازيغية المختلفة، أما اللغة الكتابية فهي ملك للجميع لمن درسها وتراثَها، ومن لم يدرسها لا يعرفها سواء كان عربيا أو أمازيغيا.
ينتظر المواطن المغربي من الله أمطار الرحمة، ومن الدولة توفير سبل العيش الكريم، ولا تهمه معرفة جيناته لأنه مهموم بحياته اليومية حاليا، ومستقبل أبنائه غدا. من اليسراوية إلى الأمازيغوية مرورا بالإسلاموية: هل هي أزمة وعي ديمقراطي؟ أم هيمنة وعي متأخر؟