قال عز وجل بعد بسم الله الرحمن الرحيم: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ”.الآية 8 من سورة الحج
تحيل هذه الآية الكريمة على أن الجدال في الله لا يخيف الله، ولا يخيف المؤمنين بالله بشرط أن يكون مستوفيا لشروط تجعله يرقى إلى مستوى الجدال الباني النافع، وهذه الشروط كان أولها: العلم وجاء في الآية نكرة، ويقصد به حسب فهمنا أي علم يساعد المتجادلين على الوصول إلى الحق، والشرط الثاني، جاء كذلك نكرة وهو (هدى)، والمقصود به هنا كل ما يمكن أن يهدي المتجادلين إلى نور الحق أيا كان، وفي الأخير كتاب منير، وهو كذلك نكرة، أي أي كتاب يمكن أن ينير طريق المتجادلين في الله، وقد يكون وحيا كما يؤمن به المؤمنون أو قد يكون كتاب علم مادي، أو كتاب منطق، أو كتاب حفريات، أو كتاب فيزياء أو أي كتاب منير، أي كتاب يحوي علما يوجه بوصلة التفكير ويحدد اتجاهاتها في جدالها في الله.
وعندما نتحدث عن العلم فإننا نعني أنساقا معرفية ممنهجة، وجهازا مفاهيميا دقيقا، ويبدو أن مصطلح “علمي” يشير دائمًا إلى نهج محدد يتم من خلاله تحقيق هدف محدد واكتشاف قوانين سيرورات الحياة على مستوياتها المختلفة..
و يفترض في هذا السياق أن يكشف العلماء عن نهجهم الذي استثمروا للوصول إلى نتائجهم لكي يتمكن الآخرون من التحقق من كل خطوة عمل وكل تكرار لنتيجة معينة، فالطبيعة العلمية تتطلب الشفافية المعرفة والمنهجية لتجنب الادعاءات غير الصحيحة المبنية على المغالطات المنطقية أو بيانات القياس غير الصحيحة أو الاستنتاجات العبثية.وعليه، فكل جدال في الله لم يستوف الشرط العلمي يكون لغوا لا غير، لأن غاية العلم هي الفهم والتفسير، والله يريدنا أن نفهم ونفسر لكن بأعلى درجة العلمية الممكنة نظرا لتعقد الخلق على جميع المستويات بناء وتطور ومآلا. الله لم يحدد لنا علما معينا في هذه الآية، بل فتح أمامنا كل الاحتمالات العلمية وجنبنا كل أشكال الانطباعية و العبيثية.
وهب أنك لم تكن عالما، ولا تمتلك كفاية التعاطي مع دقائق العلم، فإن لك في الآية تحديا آخر مفاده، ابحث عن (هدى)، أي عن موجه، أو طريق، أو علامة تساعدك على التموقع العقدي الوجودي لا المكاني او الزماني،
إنها بالفعل مسألة جد معقدة عندما نتحدث عن (هدى)، وكأني بالله عز وجل خلقنا في عالم متعددة وكثيفة ومتزاحمة أفكاره ومعتقداته، كثافة تصل إلى من يتيه فيها إلى الظلام الدامس من المعتقدات، لكنه حملنا مسئولية البحث عن النور الذي يسكنها، والنور هنا هو الموجه للتوازن العقدي والموصل إليه، إننا مسافرون وسط كم هائل من الأنوار الحقيقية والأنوار الزائفة التي ما أن تصلها حتى تجدها سرابا وظلاما، والمسافر المتمرس منا هو ذاك الذي يكتشف مع مرور الزمن وغنى التجارب الشخصية الأنوار الحقيقية والزائفة. ولا أستبعد شخصيا أن تكون الأنوار الموصلة لله كثيرة ومتعددة وغنية غنى الغني الحميد. إننا لكي نتوازن عقديا نحتاج إلى معرفة اليمين واليسار العقدي، والصالح والطالح العقدي، والأعلى والأسفل العقدي، إنه تموقع في أمكنة الكينونة الوجودية المتعددة، إن التعدد إرادة الواحد، والمطلوب الخروج من الاعتقاد في المتعدد إلى الاعتقاد في الواحد. إن إيجاد الهدى الموصل للتموقع العقدي، هو إيجاد للنفس المشتتة بين المتعدد وتجميع لمكوناتها.
لا غرابة إذن أن يكون فقدان الهدى دليل اضطراب داخلي وتيهان خارجي يستمر معنا حتى يجد كل واحد منا في لحظة من لحظات حياته ما يعتقد أنه الهدى الذي يبحث عنه، وعليه، فالهدى الذي جاء في الآية نكرة دليل على أن لله في كونه أدلة كثيرة تهدي مختلف أصناف الناس إليه، من عالمهم إلى إنسانهم البسيط الذي لا يعرف حرفا ولا يخط رسما. والجدال في الله يستدعي أن يكون جدالا هاديا لوجهة منيرة، وعلى صاحبه أن يعرفها ويتأكد من كونها تحمل صفة الهدى وإلا فإن الجالسين على طريق التضليل أكثر من الجالسين على طريق الهدى، فالجدال في الله نفسه طريق للهداية عند الله لمن سعى إليه. وأعتقد أن الله يثق في عقولنا إذا ما اشتغلت بعلم واستنارت بهداية أيا كان هذا العلم وتلك الهداية لأنه أينما تولى الإنسان بفكره فتم وجه الله ما صلحت نية البحث عن الحق.
وآخر شرط للجدال كان في الآية : (ولا كتاب منير)، وحتى هذا الشرط جاء نكرة، أي أنه يتضمن كل ما دونه الإنسان أو أوحاه الرحمن ويمكن أن ينتشلك من الاضطراب إلى الهدى. الجدال في الله من أخطر وأصعب القضايا التي تحتاج على الأقل التسلح بعلم أو نور يهدي، أو كتاب منير، لكن ما هو الكتاب المنير؟
إنه أي كتاب يحمل نورا بداخله، يحمل علما بين ثناياه ويدلك أو يساعدك على فك رموز الوجود وفهم واجد الوجود، إذ يمكن أن يكون كتاب الكون، أو كتب الوحي، أو كتب العلم على اختلاف تخصصاتها، فأينما وجد النور فتم الطريق إلى الله. أليس الله نورا؟ وعليه فكل نور هو من نور الله، فنور العلم، ونور العمل، ونور الاعتقاد كلها أنوار. لكن خلف كل هذا هناك قضية منهجية مهمة هي التي ستوصلك إلى مختلف الأنوار، إنها الشك الدافع إلى البحث عن النور وإلا ما أنزل الله هذه الآية أصلا في كتابه الكريم، أليس السعي للجدال نابع من شك معين ؟ لكن الآية نفسها تدقق أكثر عندما تمكننا من أن نستنبط من خلالها أنه ليس كل شك شكا، بل كثير من الشكوك هي خيالات وظنون وأوهام لأنها لم تتسلح لا بعلم ولا بهدى ولا بكتاب منير.
تقبل الله منكم قراءتكم