يوجد بين ما نعتقد أنه وهم وما نعتقد أنه حقيقة خيط دقيق لا نعرف لا طوله ولا سمكه ولا لونه رغم كونه دقيقا، فقد نقف مندهشين في كثير من الأحيان أمام ذكائنا، وفي أحيايين أخرى أما بلادتنا، ونشك في أنفسنا وفي قدراتنا، وبذلك في كل أشكال اليقين التي راكمناها في اعتقادنا، فينقلب يقيننا إلى ظن لا يغني النفس بجماع مكوناتها، ولا يفي بالغرض لإتيان السلوكات المطمئنة لنا، وسرعان ما ننسى شكنا وننقلب إلى يقين رخو شبيه بالشك، وشك سميك مليئ باليقين، ونحس أننا لسنا نحن ونحن ليست نحن، فيصيبنا الذهول، نظرا لكثرة وتتابع واستمرار أخطائنا، فنصيب شكنا باليقين ونصيب يقيننا بالشك، فيتطور بداخلنا إحساس مهتز يتراوح بين شك ويقين أو لنقل نطور حالة وجودية نسميها (الشقين) وهي مركبة من الشك واليقين ، وما يرتبط بهما من شقاء وشقاوة. وقد يكون لأهل اللغة كلام آخر وتعاليق مختلفة، لكن (الشقين) أراها حالة الاضطراب الدائمة بين اليقين والشك وما يتولد عنها من شقاء وما يحملانه من شقاوة.
إننا ما أن نطور رؤية معينة لشيء ما، لقضية ما، وننتشي بها حتى نراها بعد لحظات تتصدع أمامنا بل ربما من طرفنا، بل نرى أن رؤانا السابقة تناقض رؤانا اللاحقة، وتتحول تبعا لذلك حالة (الشقين) تمددا وعمقا وسمكا في وجودنا حتى أننا نكاد نزعم أنها هي الحقيقة الوجودية الثابتة وما دونها هو فقط انتقال بين مراتبها ومستوياتها. نحس بل نقف مندهشين أمام خداع حواسنا لنا، وتناقض أنفسنا، بل وخداع غيرنا لنا، ونخادع أنفسنا ونقنعها بصواب خداعنا لها ونؤصله لها حتى تنتقل في مراتب شقاء حالة (الشقين). تلامسنا هذه الوضعية في حياتا الخاصة والعامة، ونسائل أنفسنا هل ننخدع لأنفسنا أم تخدعنا أم أننا أصلا لا نملك سلطة عليها فتفعل بنا ما تشاء وكيفما تشاء. فيظهر مرة أخرى جانب الصدق والجمال الذي يسكننا وينتقل بنا إلى مستويات أكثر هدوءا واستقرارا فننعتق مرحليا من دوامة المستويات العليا من (الشقين) لكن لا نخرج منها. نراقب باندهاش وتعجب انتقالاتنا النفسية بين الخداع وألوانه، والتناقض وأشكاله، ونتعجب من قدرة نفوسنا على التكيف والعيش بسلام وأمان بين التناقضات، بل وقدرتها على تبرير تناقضاتها بل وتفاهاتها، فنؤدي أدورا متناقضة، ونفكر بأفكار متعارضة، ونطور عواطف متناقضة تجاه الذات والآخر والوجود بكل تجلياته. نحن كائنات عجيبة وإمكاناتها خارقة في القدرة على معانقة الأشياء وأضدادها. إننا نعتقد أننا نعرف أنفسنا ونفهمها فإذا بنا نكتشف أننا لا نعرفها بل تفاجئنا بأفكار وسلوكات وعواطف كنا نظن أننا بعيدون عنها، بل لا يمكن حتى أن نستحضر وجودها، يخدعنا ببساطة اعتقاد الثبات وننسى مسلمة التطور في هويتنا. يستبطن ذلك كله قدرتنا على تجنب مواجهة الحقيقة كما هي، ونسعى دوما إلى تغليفها بما يناسب السائد حتى نجنب أنفسنا أحاسيس الألم و الذنب، إنه سعي نحو الحفاظ الدائم على الاتساق والتوازن ولو على حساب الحقيقة، بل هل هناك حقيقة يمكن أن نتوقف عند حدودها ونلتزم بمقتضياتها؟ مخلصون نحن لتقلباتنا، ومستعدون بل ونميل إلى إنكار التناقضات بين أفعالنا وصورتنا الذاتية والتغاضي عنها وانتظارات الناس منا. نخفي أوهامنا على أنفسنا بأنفسنا لتبدو لنا أنفسنا نسقا متسقا منظما. لا نستطيع في كثير من الأحيان التنبؤ بما سيصدر عنا من أفكار وأفعال بعد ساعة أو يوم أو أيام، لكننا نعتقد يقينا أننا نعرف كل ذلك حتى نكتشف في أول امتحان بعد ساعة أننا تصرفنا وتكلمنا على غير ما كنا نريد. فنطور إحساسا بأنا ما كنا نعتقد أنه معرفة لا يعدو أن يكون وهما، أو ظنا. هل يعني هذا أن تجربتنا ومعرفنا ومعتقداتنا السابقة عاجزة عن أن تسعفنا في التعامل مع كل جديد وجودي لم يكن متاحا ؟ ألا تخدعنا مؤسسات المعرفة بتطويرنا من خلال برامجها لاعتقاد المعرفة؟
لماذا نخطي إذن حتى مع أنفسنا؟
هل يتعلق الأمر بمشاكل الإدراك الحسي ؟
أم بالمخزون المعرفي والسلوكي الذي لا يوائم التغيرات ؟ أو بسبب عدم موثوقية الذاكرة ونسيانها أو خمولها أو عدم قدرتها على استحضار ما يسعفنا في لحظات حاجاتنا له في وضعياتنا المعيشية؟
أم لأن المستقبل يسكننا لدرجة أنه يعمى بصيرتنا فلا نتنبأ به على وجهه الصحيح؟
أم أننا كائنات في ماهيتها الأنثروبولوجية ضعيفة ومركبة ومزدوجة حد التناقض؟