أيتها السيدات أيها السادة، أيها الحفل الكريم، أحييكم في هذه الأمسية الأصيلة من مدينة أصيلة الجميلة بكل المهابة التي أصبحت تتمتع بها، حيث يلتقي على ضفاف بحرها عشرات من المثقفين سنويًا في مؤسسة منتدى أصيلة التي انطلقت في العام 1978 من القرن الماضي؛ وأودّ أن أخصّ بالذكر معالي الوزير محمد بن عيسى راعي هذه المؤسسة، وأتمنى له الصحة والاستمرار في هذه الفعالية الثقافية المعمرة بامتياز، بل أنها تكاد تكون الوحيدة التي تحظى بمثل هذا الزخم والحيوية.
أشعر مثلما شعر أخي معالي الوزير محمد أوجار بالارتباك، وأزيد عليه، بل والحيرة أيضًا، خصوصًا ونحن نناقش مثل هذا الموضوع الحساس، الذي قلب عددًا من الموازين منذ 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 وإلى اليوم، وخصوصًا بحضور هذه النخبة المتميزة والكوكبة اللامعة من الممارسين السياسيين والباحثين والأكاديميين:
أولها – النكوص الغربي عن القيم الكونية الإنسانية، فما كان يدعو إليه الغرب على مدى عقود من الزمان ويتّهم خصومه، فإذا به يقع أسير تلك النظرة القاصرة الأنانية وغير الإنسانية. يضاف إلى ذلك اختلال مفهوم الشرعية والسلام والعدالة لديه، لاسيّما في المواقف العملية التي اتخذها بعد طوفان الأقصى.
وأودّ أن أشير إلى أن هذا النكوص والتراجع والانقلاب لا يقتصر على القوى اليمينية التقليدية المعروفة ببعض مواقفها العنصرية من الأجانب والمسلمين والعرب بشكل خاص ومن اللاجئين بشكل عام، بل امتدّ إلى اليسار كذلك، فمفكر مثل هابرماز، أحد رواد مدرسة فرانكفورت اليسارية الشهيرة، والذي سبق له أن صدّع رؤوسنا لسنوات طويلة حول قيم الديمقراطية والكونية الإنسانية، وإذا به يقف ضدّ الضحايا ويناصر القسوة والعنف وحرب الإبادة في غزة، تحت مبرر واهي وهو “الدفاع عن النفس”.
وثانيها – انكشف الغرب ليس على الصعيد السياسي وحسب، بل على الصعيد الفكري والثقافي أيضًا باتباعه المعايير المزدوجة والانتقائية التي ضربت عرض الحائط منظومة قيمه التي كان يدعو لها في سبيل مصالحه الضيقة على حساب القيم الكونية الإنسانية، خصوصًا وأن الأمر يتعلّق بالدولة العميقة التي يديرها في الولايات المتحدة ترست الأدمغة “مجمّع العقول”، الذي يعكس مصالح المجمّع الحربي والصناعي، بغضّ النظر عن القيم التي كان يضغط فيها الغرب على بلداننا وشعوبنا باسم الديمقراطية، في حين أنه بالتنظير والتطبيق أخذ يروّج لمعايير مشوّهة أساسها الإزدواجية إزاء القضية الواحدة، وهو ما يعرّض صدقيته للاهتزاز، سواء على صعيد شعوبه، حيث كانت الأصوات ترتفع ربما لأول مرّة بهذا الحجم للاحتجاج على ما يجري في غزة ولبنان، أم على الصعيد العالمي.
وثالثها – تجاهل الغرب قيم العدالة وقرارت محكمة العدل الدولية، وهي إحدى أجهزة الأمم المتحدة، وقد أصدرت هذه الأخيرة قرارًا بدمغ إسرائيل بممارسة حرب إبادة في غزة، في حين أن حلفاء إسرائيل الغربيين يغضّون النظر عن ذلك، وكانت زيارتهم لتقديم الدعم إلى إسرائيل قائمة على قدم وساق. ولم يتوقف الغرب في التغول على قرارات محكمة لاهاي للعدل الدولية، بل ذهب أبعد من ذلك حين ازدرى قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع غالانت.
ورابعها – أن مصدر حيرتي هو النكوص العربي أيضًا لدرجة الإنكفاء، سواء على المستويات الرسمية أو على المستويات الشعبية، وكأن الأمر لا يعنيها، ولو قارنا ما حصل في عام 1956 وعام 1967 وعام 1973 وما بعدها حين تم غزو لبنان 1982 وحرب إسرائيل ضدها في العام 2006 سنلاحظ الفارق الكبير في ذلك بين هبّة البلدان العربية حكومات وشعوبًا وبين الاستكانة التي يشهدها العالم العربي بجميع تياراته وقواه.
وخامسها – أن الكثير من القوى التقليدية والمحافظة والتي اضطّر البعض منها إلى مجاراة موجة الديمقراطية، انقلب عليها وأخذ يشكك بجدوى حقوق الإنسان، بل ويفسرها تفسيرات ضيقة ومغرضة، بزعم أن الغرب تخلّى عنها فلماذا نتمسّك بها؟ وهكذا وجدت بعض الأصوات التي تدعو علنًا إلى التخلي عن القيم المشتركة، باعتبارها لا تخصنا، فضلًا عن أن ديننا يقف موقفًا معارضًا لها.
وأودّ أن أشير هنا إلى أن قيم الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة والسلام والتسامح واللّاعنف هذه جميعها تمثلنا كبشر، بغض النظر تمسّك بها الغرب أم لم يتمسّك، ولا بد من العمل والأمل معًا على ترميم الحياة الدولية بتعاوننا ووقوفنا ضد انتهاكات إسرائيل التي تمارسها جهارًا نهارًا وعلى مرآى ومسمع من العالم.
وهنا أدعو إلى اقتفاء أثر المغرب بتبني فكرة عدالة دولية انتقالية ومطالبة الجهات التي قامت بارتكابات للاعتراف بذلك والاعتذار عنه ودفع تعويضات، وهو ما يتحرك عليه المغرب وسبق أن كتبت عنه وأعني استخدام أسلحة محرمة دوليًا من جانب إسبانيا ضد ثورة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي.
في الختام أقول أن عدم تمسك الغرب بالقيم المشتركة وقيام حليفته إسرائيل بارتكاب جرائم موصوفة ومكتملة الأركان المادية والمعنوية سيلقي بثقله المستقبلي على الغرب نفسه. ولعل ذلك يشعرنا بمسؤولية أكبر، الأمر الذي يستوجب أن نكون أكثر تمسكًا بهذه القيم على صعيد أوطاننا، وهو شعور يجعلنا أشد ارتباطًا بأوطاننا وشعوبنا وتنميتها وتقدمها انطلاقًا من ثقافتها وتاريخها وتطلعًا لمستقبلها، فالواحدية والإطلاقية وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة التي كان الغرب يواجهنا بها لم تعد مقبولة، وأن نظامًا عالميًا جديدًا قيد التشكيل يمكن الإفادة من معطياته في توازن قوى جديد على أساس القيم الإنسانية الكونية المشتركة وليس غيرها.
وأنتهز هذه الفرصة لأطرح مشروع جبهة ثقافية واسعة وعريضة ومرنة على صعيد المثقفين، ويمكن أن تنشط على صعيد المجتمع الدولي، ونتذكر أنه في ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001، كيف أدانت 3 آلاف منظمة مدنية، إسرائيل وممارساتها العنصرية، إذْ لا بد للنخب السياسية والفكرية والثقافية أن تنفض الغبار عنها وتتفق على خطوط عريضة تمثّل معايير الحد الأدنى.
*نص الكلمة التي ألقاها المفكر العربي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان خلال مشاركته في الندوة الفكرية التي نظمت مؤخرا بمنتدى أصيلة، في موضوع “الديمقراطية والكونية الإنسانية” .