هل هناك إعلام مجتمعي حقيقي؟
من واجب العلوم الإنسانية كما يُلح على ذلك المؤرخ فرنسوا فوري أن تتصدى لكل القراءات الاستهلاكية للحدث، وأن تنزع عنه أيضا التشويش الذي يعيق عملية الفهم. وبما أننا نعيش زمن الصورة، فالصورة تهيمن على الوجود البشري، وتبرز بعض التشققات في الاجتماعيات المعاصرة. لقد فرضت الثورة الإعلامية الجديدة زمنا جديدا على الباحثين يُمكن وَسمه بزمن متابعة “الحدث الآني”. لم تعد هذه الوسائط الرقمية تُخبرنا بالحدث، بل تَصهرنا فيه. ليصير المشهد كالتالي: حوادث مفتتة ومشتتة ومتشظية وضائعة في سلسلة من العجالات ” الأخبار العاجلة”. بالنهاية، ساهمت ثورة الرقميات الجديدة في صناعة التضخم الحدثاني، لأننا أضحينا اليوم كما لو أننا نعاين وقائع الحاضر من فوق عربة متنقلة، لا نستطيع تسجيل كل ما يمر من أمامنا بسبب سرعة تدفق سيولة الأحداث وتبادل المعلومات.
عودة إلى السؤال، السؤال في ماهيته يحيل عن الحاضر. لكن، كيف ننظر إلى هذا الحاضر؟ نحن أمام حاضر لا يكف عن الاحتراق في الراهنية بتعبير المؤرخ فرنسوا هارتوغ F Hartog. الحاضر الذي أتحدث عنه يقترن بالخبر أو بصناعة الخبر، ما يهم في الخبر هو استعمالاته؛ الخبر هو ما يَؤول إليه، لا يحمل قيمة في ذاته، بل بما يترتب عنه. وهنا يتحدث البعض عما يسمى ب “الخبر الُمثمن” الذي يتصدر المشهد، ويُغطي على كل الأحداث الموازية والمتقاطعة. وقد يُسميه البعض ب “الحدث الآني” الذي تُخصص له متابعات صحفية ونقاشات إعلامية. لقد نبَّه البعض إلى عنف التحول الذي تمارسه وسائل الإعلام على الحاضر. لأننا أمام وسائل إعلام اغتصبت الحدث، وجعلت وحشا، لأنها تفرض علينا يوميا عناوين تصنع منها أحداثا، وقبل أن تعرضها علينا يُخضعها رجال الإعلام للتنسيق وإعادة التأهيل والتوضيب والتصميم…للأسف، حينما تضمر ثقافة المواكبة النقدية للحدث نصير أمام متلقي لا يُميز بين الحدث الكبير الذي يفرض نفسه، وبين الحدث الميت الذي يأتي كعنصر مشوش، أي بين الحدث المؤثر المتصل بالبنية، والحدث الفوري الذي يتسم بالتشتت والسرعة والتحلل في الحاضر. هنا بالذات، يظهر تميز المؤرخ الفرنسي ميشيل دوسرتو، حينما ربط الحدث المتصل بالفعل، بالصناعة، بالأثر والتحول، بالغموض والتركيب…
نعيش اليوم ما يمكن أن نُسميه ب”خطر وسائل الإعلام”، والعبارة في الأصل مقتبسة من الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. وحينما أقول خطر، لأن الصورة اليوم تتلاعب بنا بصريا، وتأخذنا نحو العوالم التي تريد. لقد انتبه البعض إلى أن الصورة أفتك اليوم من السلاح النووي من حيث التأثير، بحكم أنها تنتشر بسرعة، وتخفي وراءها صناعات استراتيجية متحكم فيها. لقد ساهمت الصورة في تعظيم الخبر من خلال تكثيره إلى ما لا نهاية، ولعبت دور الإلهاء والتحييد. بهذا، نحن إزاء أحداث مصنوعة إعلاميا، قد تماثل الحقيقة في شيء، وقد تتخذ بُعدا تضليليا.
يتوجب أيضا، ضرورة تأصيل كلمة الإعلام. تاريخيا، فكرة الإعلام ارتهنت بالنضال الوطني ضد الاستعمار. وقتها الحركة الوطنية في ثلاثينيات القرن الماضي تعتبر الصحافة واجهة من واجهات مواجهة الاستعمار وفضح ألاعيب السياسة الاستعمارية. خلال تلك اللحظة امتزجت فكرة الصحافة مع فكرة الوطنية التي تحدث عنها العروي في كتابه عن الوطنية المغربية، وكانت عبارة الصحافة الحرة تعني صحافة الحركة الوطنية، مثل جريدة الشهاب، وجريدة صوت الشعب L’action du peuple، وأيضا صحيفة Marroqui Unidad. مع فجر الاستقلال بدأت تظهر ما يسمى بالصحافة الحزبية التي ارتبطت بأجهزة الأحزاب السياسية.
فوضى للتواصل الاجتماعي وشيوع التفاهة ونشر الأخبار الكاذبة؟
السؤال من خلق الفوضى؟ أو من يعتاش من الفوضى؟ الفوضى اليوم يمكن النظر إليها كبِنية، منظومة عمل Modus Operandi، والحال، تعيش صحافة اليوم في منعرج خطير، أو في مفترق طرق، في وضع صعب جدا، نحن إزاء لحظة مفصلية وفارقة جدا في مسارها. دعوني أستعير معكم العبارة الشهيرة للمفكر أنطونيو غرامشي: “جسد على وشك الوضع، يترنح بين ماض لم يمت وحاضر لم يولد”. أو لنقل بعد تحوير العبارة: نحن أمام صحافة على وشك الوضع، في طور تشكل مولود جديد…واضح أن كثيرا من ثوابت المهنة ماضية نحو التفتت والتحلل. علينا أن نصدح بصوت عال جدا، وأن نؤسس جبهة للمقاومة للقول بأن الصحافة في البدء والمنتهى هي موقف؛ وهي أيضا قضية إحساس وشغف تَصدر عن رؤية فكرية وحس منهجي والتزام أخلاقي ومنهي…
سلطة الاعلام الرمزية في نشر المعرفة ..
في خضم التحولات الرقمية لم يعد الخبر الصحفي يحمل قيمة في ذاته، بل بما يتصل به من نتائج، لا يؤخذ بأسبابه بل بمضاعفاته. الخبر الصحفي اليوم مفتوح على متواليات لا نهائية…صرنا اليوم أمام عالم مختزل ف صورة نقلا عن صورة كما يقول الفيلسوف جان بودريار…لهذا، صرنا أمام وسائل اعلام جديدة تضفي صنوفا من الحماسة والتجييش وتعمد إلى قلب الحقائق وتشويه الوقائع وتحويل الحدث إلى أحداث متشضية.
علينا أن نتذكر في السياق العربي حرب 1967م وقتها كان المذيع المصري الراحل أحمد سعيد من خلال برنامجه الشهير ” صوت العرب” ينقل البيانات العسكرية التي تؤكد الانتصار العسكري الساحق للجيش المصري على العدو الإسرائيلي… حتى عهد قريب ما كان ينقله وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف في حرب الخليج الثانية سنة 2003. اللحظة المفصلية هي بداية التسعينات من القرن الماضي مع دخول الفضائيات التي زادت من سرعة نقل الحدث وتفاصيل الحدث. حتى ما ينعت بالربيع العربي هو في أساسه صناعة إعلامية تحكمت فيها مواقع التواصل الاجتماعي. ومسألة التحولات يجب النظر إليها على أنها كونية، حيث لم يعد الإعلام هو المصدر الوحيد للخبر، اليوم نعيش ما سماه تشضيات الحدث.
- الشباب ووسائل الإعلام
إذا اقتربنا أكثر من الوضع يمكن أن نعبر عنه ب” الاختناق السياسي” وضيق صدر السلطة من الاحتجاج والنقد والمساءلة…تحدث تقرير للمجلس الاجتماعي والاقتصادي لعام 2023 عن وجود حوالي ثلاثة مليون شاب خارج دائرة التمكين، بمعنى خارج أسوار المدرسة، وخارج سوق الشغل، وهي إشارة انتبه إليها الصحفي رشيد البلغيتي في أحد حواراته حينما سماه هؤلاء بحزب جديد في المغرب، هؤلاء الشباب هم الذين شكلوا وقود الهجرة السرية التي رفعت هاشتاغ 15-9 في مدينة الفنيدق. بالعودة إلى السؤال، شباب اليوم له اعلامه الخاص، غارق في فوضى الصورة.
- أخلاقيات الصحافة ..
لا يتعلق الأمر فقط بأخلاقيات مهنة الصحافة، بل الأمر في كل المهن، هناك رصيد أخلاقي آخذ في التآكل والتحلل، وهناك قيم جديدة قائمة على الانتهازية والوصولية تفرض نفسها على حساب قيم المصداقية والشفافية والنزاهة والاستحقاق…اليوم كلما زادت انتهازية الشخص كلما ضمن اقترابه من مربع السلطة، وضمن الصعود المتسلسل والترقي المهني…من واجب الأقلام الحرة اليوم أن تدافع بكل قوة عن نزاهة الإعلام. واضح أن كثيرا من ثوابت المهنة ماضية نحو التفتت والتحلل. علينا أن نصدح بصوت عال جدا، وأن نؤسس جبهة للمقاومة للقول بأن الصحافة في البدء والمنتهى هي موقف؛ وهي أيضا قضية إحساس وشغف تَصدر عن رؤية فكرية وحس منهجي والتزام أخلاقي ومنهي…
- تغييب الإعلام في مجال التنشئة الاجتماعية
تنتشر اليوم أفكار مسمومة جدا في الوسط المدرسي. للأسف، مدرسة اليوم صارت في مواجهة الإعلام والمجتمع…حملات إعلامية مسعورة تعمد إلى تشويه دور المدرسة وإلى تتفيه منتسبيها. نُسجل الآن حملات ممنهجة تمارس اليوم على المتعلمين في بعض المنصات الرقمية ومن طرف صناع المحتوى التي تدور في فكرة أن النجاح لا يرتبط بالمدرسة. بعض المتعلمين مثلا يتحدثون عما يسمى بالإيكوميرس e-commerce الذي يُحقق الأرباح السريعة، والبعض الآخر منهم يتحدث عن الحريك “بغيت نْغرب”…صرنا الآن، نعاين انتقال قيم العنف الرمزي والمادي إلى الفضاءات التربوية بشكل خطير جدا، في غياب أي مواكبة قانونية أو تأطير تربوي أو تدخل وقائي علاجي.
- تصحيح الانحرافات
سؤال الحل متعدد الرؤوس. لكن، الاختيارات النيوليبرالية التي تراهن عليها الدولة تفرز دوما نذوب بنيوية مثل: تعليم غير منصف، خدمات صحية رديئة، ولوج جد محدود إلى الشغل والسكن…لتغطية هذه الندوب يتوجب صناعة اعلام مشوه، اعلام مضلل…يحضرني في هذا الصدد كتاب كان قد صدر خلال سبعينيات القرن الماضي كتبه اقتصادي يدعى جمال السالمي بعنوان: Le Maroc Planification sans Développement، المغرب: تخطيط من دون تنمية، أعتقد أن هذا الكتاب رغم بعد المسافة معه لا يزال يحظى براهنية كبيرة في تحليل الوضع الإعلامي في مغرب اليوم. كيف ذلك؟ إذا حاولنا أن نستعرض مسار تنمية البلد على مستوى الوثائق يمكن أن نقول إننا نتوفر على مخططات ومشاريع رائدة لا مثيل لها في العالم: عناوين جذابة، مشاريع طموحة، وسيولة مالية مغرية…لكننا، على مستوى الواقع، لا نجد أثرا لذلك على المعيش اليومي للمغاربة…الواقع، هناك خلل. إذا ما استعرنا نظرية تحليل النظم من الاقتصاد، هناك خلل بين المدخلات والعمليات والمخرجات…أتصور أن الربط بين هذا الثالوث سيحدث ثورة في التدبير وسيساهم في تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة واستقطاب الكفاءات الوطنية واستبعاد منطق الولاءات، وبالتالي، في عودة الثقة إلى الاعلام، وإلى قيم الصدق والأمانة والنزاهة…
- كلمة الكاتب في المائدة المستديرة الت ينظمتها مؤسسة كش بريس الإعلامية، يوم السبت 16 نونبر 2024، بمناسبة اليوم الوطني للإعلام،