المُفَكَّكُ لا يُفكَّكُ؛ فقَد كانَ جسماً مَبنياً على نَحوٍ ما ثُمَّ فُكِّكَ لأغراضٍ ما وانتُقِيَ من الأجزاءِ المُفكَّكَةِ أجزاءٌ للاستدلالِ بها؛ فلمّا قُضيَ منها الوَطَرُ أصبحَت خطاباً جديداً تُبنى عليه أفعالٌ ومواقف
عندَما نَقولُ: حرية المرأة، فإنَّنا نتصوَّر المرأةَ ضحيّة زوجها وأبيها وأخيها وضحية العُنف والتعنيف، ونبني من ذلكَ خطابَ الاستعداءِ، وتُبْنى على ذلك الخطابِ مَواقفُ وأفعالٌ في الزواج والطلاق والميراث وأين تقف مسؤوليةُ الزوجِ على زَوجه…
أضحى المجتَمَع اليومَ ضحيّةَ خطابٍ مفكَّك جاهزِ التفكيك حَديثِ عَهد بالتجزيء، ووُجِّهَت أنظارُ المجتَمَع عَلى حين غِرَّة إلى تفكيك خطابِ مُفكَّك من قبلُ، من غيرِ أن يُنبَّه أو يَنتبِهَ إلى سَبْق التفكيك وكيفَ كانَ الخطابُ قبل أن يُفكَّكَ ولمن الحقُّ في التفكيك .
عندَما قُدَّمَ ملفُّ المرأة إلى عُمومِ الأنظارِ قُدِّمَ مبنياً بناءً يُبرزُ جوانبَ الهضم والظلمِ يُواري الحُقوقَ المُستحَقَّةَ منذ قَديم… فأصبحْنا نتعامل مع جيل كأنّه فاقدُ الذّاكرَة أو فاقدُ القُدرة على التحليل والمعالجَة والمُساءَلَة والنقد؛ فقَبل بالموضوع المُعْطى كما أُعْطِيَه.
والسببُ في أنّ الناسَ تأخذُ ما أُعْطِيَتْ كَما أُعْطِيَتْهُ وتُصدّقُ ما تَراه وتحكمُ بما تُدركُه من ظَواهرِ الأمورِ؛ غيابُ العلمِ بالموضوعاتِ والقضَايا والإشكالاتِ المُثارَة التي هي اليومَ مَثارَ جدالٍ. فقد أَلِفَ الناسُ أن يَنطلقوا مما يُنشَرُ في الصحافة والإعلامِ، أومما يَسمَعونَه أويَرَوْنَه أو يُحَدَّثونَ به، وكلّما ابتعَد الناسُ عن العلم والمنهج النقدي في الإدراكِ ازدادَ إقبالُهم على قَبولِ ما يُحدَّثون به. حتّى باتوا جاهزين لتصديقِ الوَهم والزورِ والإشاعات والقِصَص المُختَلَقَة، في عصرنا هذا عصر ما وَراء الحقيقة : post truth