1 –
– هل اللغةُ النظاميةُ النسقيةُ غيرُ قادرةٍ على بُلوغ أفئدة الناس وعُقولهم؟
– ما حقيقةُ حكايةِ أنّ اللهجةَ لغةٌ أمٌّ لمَن ينطقونَ بها، وإذا صحَّ أنّ اللهجةَ أّمُّ الناطقين بها فما مَكان العربية من المشهد اللغويّ العامِّ؟ ألا يصحُّ أن نقولَ إنّها غريبةٌ عن المجتمع ومكانُها في بُطون كتُب التاريخ والتراث، وأنّ اللهجاتِ لغاتٌ حيّةٌ لأنها ناطقةٌ مُستعمَلَةٌ مُواكِبةٌ لحياة أصحابها في المجتمع ؟
– لماذا يزعم أنصارُ التلهيج أنّ الدارجة قيمةٌ من قيم المُواطَنَة وأنّ مَن انتقَدَ قدرتَها الثقافيةَ والتداوليةَ فقد انتقص من المجتمع ومن المُواطَنَة وطعن في القيم، واستحق المُقاضاةَ؟
– وهل تُعامَلُ العربيةُ بمثلِ ما تُعامَلُ به الدارجةُ، فتحظى مثلها بالمكانَة نفسها فيكونُ كُلُّ انتقاصٍ منها إضراراً بالمواطنة ؟…
– هل يكمنُ وراءَ “خطابِ التدريج والتلهيج” مَذهبيّةٌ سياسيّةٌ (Ideology) تُخفي وراءَها ولاءً وبَراءً، ولاءً لسياسةِ الغَرَق في الذّاتيّةِ والمحلّيّةِ وبَراءً من الروابط التاريخية والعَقَدية واللغوية العريقَة، فجَرَفَ هذا الخطابُ المشهَدَ الثقافيَّ والدّينيَّ واللغويَّ الرَّسميَّ، وأبعَدَه عن مُحيطه وفصلَ مُتَّصِلَهُ ووصَلَ مُنفَصِلَه؟
2 –
من خصائص اللهجة العامية أو على الأقل من طرُق خِطابِ المُتَحدّثينَ بها الإكثارُ من استعمال الألفاظ المُبْهَة مثل الضمائر والإشاريّات والألفاظ الموغلة في العموم والتنكير مثل “الشيء” و”أحَدُهم” و”ذاك”، وإلقاء مهمَّة الإحالة للمُخاطَب ومَدى قدرته على الفَهم.قد يقولُ القائلُ إنّ اللهجةَ طريقةٌ من طُرُقِ الأداء اللغويّ ولا تُعلَّقُ عليها مسؤولية الإلباس في الخطاب، وإنما ذلك من شأن المتكلم بها ومَدى وُضوح المعنى في ذهنه، ومَدى قُدرته عل البيان بها، ومدى حظّه من الثقافَة والتجربة.
لا شكّ في أنّ كلَّ أداء لغويّ يستند في التعبير والتداوُل إلى رصيده الثقافيّ، وإلى نظامه اللغوي وقَواعده ومنهاجه في توليد العبارات، ويَقوى هذا الاستنادُ ويضعُفُ بقوةِ الرصيدِ أو ضعفِه، ولذلكَ تجدُ أن اللهجات العاميةَ تحتاجُ في خطابها إلى المُشيرات المقاميّةِ، بل تكادُ تُصبحُ لصيقةَ السياق الذي يدورُ فيه خطابُها، ومن هذه المُشيرات حركاتُ الجسم والإشاراتُ بالجوارح ومُحاكاةُ الأصواتِ… وغيرُها من الوسائلِ المُساعِدَةِ على تبليغ المَعْنى، وكلَّما قلَّت عُدَّةُ اللهجةِ من وسائل التواصل اللغويةِ ومن القواعد والضوابِطِ والأنساق اللسانيةِ، ازدادَت افتقاراً إلى وسائلَ مُساعدةٍ غيرِ لغويّةٍ.
قد يقولُ القائلُ إنّ العربيةَ نفسَها كانتَ لهجةً بين اللهجات قبل أن تصيرَ لغةً. والجوابُ أنّ الموازنةَ ههنا موازنةٌ ظاهريةٌ شكلية بين الانتقالَيْن نظرا لأسباب كثيرة، ترجع إلى السياق التاريخي والمعرفي… لكن إذا وازَنّا بين اللغة واللهجة فينبغي النظرُ أولاً إلى وضعهما في راهنهما وليس في المَآلات، فراهن الدوارج العربية اليومَ يَشهدُ بأنها لا تُستعمل إلا في حُدود اجتماعية تواصلية مُطْلَقَة غير مُقيدَة بضوابط، وتستكمل اللهجاتُ نقائصَها النسَقية بنظام سيميائي آخر مُشترك هو الإشارات والإيماءات… ولا ننسَ أيضًا أن كثيراً من الدوارج العربية تفتقر إلى تراكيب أو قواعد تجعلها تتصرف في ما بين يديها من أدوات لغوية مستعارة من العربية، مثلاً: الدوارج غيرُ مُعْربَةَ، وقد اضطرَّها غيابُ الحركات الإعرابية إلى إسقاط تراكيب، مثلاً لا تكاد تجد بناء ما لم يُسمَّ فاعلُه في الدوارج، وقد عُوِّضَ يبناء الفعل على صيغة مُطاوَعَة [مثلا الدارجة المغربية والمصرية وربما غيرهما تجد فيها: بدل أُخِذّ يُقال اتْخاذ، وبدل ضُرِب اتّْضْربْ…] أضف إلى ذلك أنّ غياب الحركات فَوَّت على الدوارج التمييز بين الفاعل المرفوع والمفعول المنصوب، فعوّضوا ذلك بالاقتصار على الجملة الاسمية التي خبرُها جملة فعلية… لو اقتصرنا على الموازنة الشكلية لافترضنا أنّ العربية الفصيحة ستنقرض أو تنحسر وستعم الدوارج، وهذا ما لا تشهد به الوقائعُ، بل تزداد مساحة الفصيحة اتساعا، أما الانحسار فهو إكراه وضغط سياسي لتغييب العربية من مشهد التداول والمعرفة.