1 ـ ما مَعنى خطاب المؤسسات أو الخطاب المؤسسي ؟
هذا مقطع من محاضرة: بلاغة التوازن والاعتدال في الخطاب العمومي للأستاذة ماري فينيار في كوليج دوفرانس أُلقيت حديثاً: 22 نوفمبر 2021
من خصاص الخطاب المؤسسي:
1- اختزال تنوع الملفوظات الممكنة واختصارها في خطاب واحد.
2- حذف مواضع الخلاف والصراع لبناء خطاب موحد.
وتتميز خطابات السلطة إلى حذف مواطن الخلاف بين الملفوظات المُنجَزَة التي جُمعَت لتأليف خطاب سلطوي، بل إلى إنكار وجود اختلاف بين الآراء والعمل على محوها، وتدورُ أفكارُ “خطاب السلطة” حولَ وضع “مَقبوليةٍ” للخطاب مُتوقعةٍ ولا تناقُض فيها [أوجير2013]
3- الذات بمفارقاتها وتناقضاتها: الذّات السلطوية – فرض الذّات بلا قُوّة …
2 ـ ما أشبه اليومَ بالأمس:
أكلَ الصليبيونَ الأندلسَ عندَما تجزّأتْ إلى طوائفَ عليها أُمراءُ، وبدأ ذلكَ عام 422هـ، عندَما أعلنَ الوزيرُ أبو الحزم بن جهور (ت.435هـ) أحدُ الوزراءِ الأمويين على الأندلس وأولُ حكام طائفةِ قُرطبةَ، سُقوطَ دولة بني أمية في الأندلس، فكانَ الحدثُ الخطيرُ مُنطَلَقَ بناءِ دويلات منفصلة مُتصارعَةٍ على رأسها أُمراءُ .
وعَدَّها المؤرخون في اثنتَيْن وعشرين دويلةً أو إمارةً منها: غرناطة وإشبيلية، وألمرية وبلنسية، وطليطلة وسرقسطة، ودانية والبليار وغيرها…
تميزَت الدويلاتُ بالاضطرابات وعدم الاستقرار بالرغم من الثراء والبذخ، ونشبت بينها الحُروبُ الطاحنةُ، فوصل بهم الأمرُ إلى أنهم كانوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس، وكانوا يستعينُ به بعضُهم على بعض.
ونشهدُ اليومَ أقسى تقسيم وتقطيعِ أوصالٍ نفذَه الاحتلالُ منذ سُقوطِ الدولة العُثمانيّة، وفي كلِّ حربٍ عالَميّة يُعادُ تقسيمُ العَرَب إلى أجزاء، ويعيشُ العالَمُ اليومَ على أشرسِ الطُّرق في التقسيم وبثِّ عناصرِ الفُرقةِ والبلبلة، حتى لا تَقومَ لدولةٍ قائمةٌ، فيحنَّ الغُصنُ إلى أصله.
وتَجتهدُ دُويلةُ الاحتلالٍ اليومَ في زرعِ الشقاقِ بين الجيرانِ لإسقاطِها جميعاً، مُستعمِلةً وسائلَ الخداعِ والوُعودَ بالحمايةِ، والغايةُ أبعدُ من ذلك.
فليسَ مُستنجدُ العرب اليومَ بمُحتلِّ الأمسِ، على أخيه بجوارِه إلا من ذلكَ النمطِ المتكرر، وكأنّ العدوَّ عرفَ نفسياتنا فبدأ يعزفُ على الوترِ نفسِه لكي يسمعَ اللحنَ نفسَه. وكلُّهم صَرعى كأعجازِ نخلٍ خاوية.
عيبُنا في قُصورِ النظرِ، فلا ننظرُ إلى مصالحنا إلا من أقربِ المَسافاتِ، بينما العدوُّ يسيرُ في طريقٍ طويلٍ لإنفاذِ مشروعٍ تقسيميّ كبير تكونُ لها فيه السيادةُ العُظمى.
أُكِلْنا عندَما أكلَ الصليبيونَ الأندَلُسَ أمسِ.
3 ـ ماذا أنتجَ الخطابُ التعليمي الذي يستغرقُ وقتُ إنجازه الورقيّ والتنظيميّ… السنينَ ذوات العَدَد، والأموالَ والعُدَد، هل تمكّنت دروس المقررات والبَرامج المَوضوعَة لتنشئة التلاميذ وتنمية مواهبهم وقدراتهم، من بُلوغ المَرام ؟ هل تحقّقت أخلاقُ المواطَنَة في التلاميذ وثُـبِّـتَت في نفوسهم قيمُ التنشئة الاجتماعيّة السّليمَة Socialisation، هل خرَّجَت لنا أدبياتُ الخطاب التعليميّ التلميذَ النموذجيّ الذي تنتظرُه البرامجُ والمقرراتُ وأدبياتُ المواطَنَة ؟
عندما تَستقْري واقعَ التعليم ببلادنا تجدُ أنّ مقاصدَ أهل الحلّ والعَقد في السياسَة غيرُ مَقاصد أهل التربية والتكوين، غايات أهل التدبير التربوي غير غايات أهل التدبير السياسيّ ، فالشأن السياسيّ محكومٌ بقيود صارمة تتحكّمُ فيها ضروراتٌ داخليّة nécessités et contraintes وأُمليّاتٌ من الخارجِ تُملى بُكرةً وأصيلاً، ويتعيّنُ أن تُراعى تلك القُيود والضوابطُ ويُلتَزَمَ بها، ويُضربُ بعرض الحائطِ كلّ تدبير خُلُقيّ أو تخطيط تربويّ أو تنشئة على المواطَنَة.
أجل، عندَما تستقري واقعَ المتخرّجين تجدُ أنّ السلوكَ السائدَ نقيضُ الثقافَة التربوية المسطَّرَة في قراطيسِ البرامج المدرسيّة. فنحصلُ على مواطنٍ يُعاني صراعاً شديداً واضطراباً في السلوك والشخصيّة، نحصلُ على فردٍ ممزّقٍ موزَّعٍ بين ثقافتَيْن متناقضتَيْن متباعدَتَيْن، ويُفترَضُ في خِرّيجِ تلكَ البَرامجِ أن يُطوِّعَ نفسَه على إحداث التوازن بين نَقائضِ التربية والثقافَةِ وآفاتِها، وإقامَة طرُق الانسجام والائتلاف بَيْنَها، وهذا أمرٌ إن أحسَنَ القيامَ به أفرادٌ فإن الغالبيّةَ العُظمى تفشلُ في ذلك وتستسلمُ لتيارات الواقع السلبيّة وموجاته الجاذبَة النّابذة.
4 ـ رِهانُ تَحليل الخطاب:
المستوياتُ الثلاثةُ: مستوى البنية اللغوية، ومستوى شروط القول التاريخية والسياسية، ومستوى تَفاعل الذّوات، مترابطة في علم “تحليل الخطاب” ولا ينفصل بعضُها عن بعض، ويُراد بهذا التلازم الشديد بين الأطراف إتاحةُ تأويل ما للخطاب، ليس بالضرورة واحداً، ولكنه لا يندّ عن شروط التأويل الموضوعية ما دام ينطلقُ من قواعدَ ويستحضر الأطرافَ المذكورةَ، والسبب في أنه لا يوجد تأويل واحد صارم أن اللغة في ذاتها تتميز ببعض الخصائص منها اللَّبس ويحتاج اللبس إلى طرُق لرفعه وكلُّ قارئ يلجأ إلى طرقٍ ما، فالاختلاف جزئي ولكنه موجود.
5 ـ
دروسُ العربيّة باللهجة المغربيّة، أو إشكال: لغة تَدريس اللغة العربيّة :
ما أكثر ما تسمَع دروساً في اللغة العربيّة واللسانيّات الحديثَة والعلوم الإنسانية باللهجة المغربيّة، ليسَ العيبُ في اللهجة؛ إذ اللهجةُ سندٌ نفسي واجتماعيّ يُواكبُ العربيّةَ من الأساس، ولكنّ العيبَ في أنّ الذي يركّب محاضرةً في علوم العربيّة باللهجة المغربيّة لا يُحسنُ تركيبَ جملة مُفيدة فكيف يُطلَبُ منه تركيبُ محاضرَة علمية.
توسيط الدارجَة المغربيّة في إلقاء محاضرات اللغة والنحو واللسانيات والأدب وعلوم النفس والاجتماع…، ليس له تفسير إلاّ عدم التّمكّن من اللسان الفصيح وقواعده وأساليبه، فالمدرّس يتحول إلى معلّم صنعة أو مهنة يدويّة، ويتسوَّر دار العلم ويترك بابَها.
توسيط الدارجة اليومية في تعليم العلوم اللغوية والادبية والنقدية والانسانية عَبثٌ؛ لأنّ الدارجة لا تشتمل على مقوّمات اللغة الثقافيّة ولا تقوى على أن تكونَ لغةَ النّموّ الثقافي والارتقاء الذّهنيّ والابتكار المَفهوميّ [أي ابتكار المفاهيم والأنساق الفكريّة]
الذي يُدرّس العربيّة بالدارجة المغربيّة، يفعلُ ذلك وهو آمن مطمئنّ لا يُحاسَبُ لأن السياقَ العامّ يتّجه نحو معاداةِ العربيّة ووأدِها، لا يُحاسبُه مفتّش ولا وزارَة ولا مجلس مؤسسة ولا هيئات ثقافية ولا منظمات حقوق اللغات… لا خوفَ على مدرّس العربية بالدّارجَة، فهو يسير في حركة تناسبية مع الحرَكَة الثقافيّة والسياسية والإعلامية العامّة للبلَد.
فها أنت ذا أيها المدرِّسُ المُدرِّج المُلهِّجُ قد استتبّ لك الأمر وخلا لَك الجوّ ودانَت لك الدّنيا، فاصنعْ ما شئتَ بلغة أمتكَ.