1 ـ التنمية الروحية والإنعاش العَقَدي عاطلان في جسم التنمية البشَرية أو شبه عاطلَيْن.
على الرغم من الإصدارات الكثيرة في هذا البابِ والنَّتاج العلمي الغَزيز، ما زالَ التمكينُ لتأثير القيم الروحية والعَقَدية في حياتنا المُعاصرَة وجَعلها مَركزاً من مَراكزِ القَرار ضعيفاً بل يَزدادُ ضعفاً وهُزالاً .
أصبحَ “مُشيرُ” التنمية ومقياسُ قِياسِها يُقاسُ بالتفتُّح المادّيّ على الخارج والتخفيف من ثقافة الذّاتِ من أجل رفع الإنتاج وإحداث الشراكاتِ الجزافيّة وتوقيع العُقود الرُّكاميّة التي تُحطِّمُ كلَّ جدارٍ أو حِمىً أمامَها
أمّا التوازُنُ المَنشودُ بين قيم الذّات وحاجات التنمية المادّيّة، فلا يَفقهه إلا الأممُ المتقدِّمَة التي تحافظ على ذاكرتها وتجعلُ حُضورَ القيم شرطاً في تحرُّك عَجَلَة المادّة. وتَحمي عقيدَتَها وثقافَتَها وتاريخَها وتَعليمَها من الاجتياحِ العَرِمِ لموجَة المدنيّةِ التي تبتلعُ كلَّ شيء.
2 ـ من فُنون اللغة العربية أو من أسرارها وذكائها ما سَمّاه ابنُ جنّي “بتلاقي المعاني، على اختلاف الأصول والمباني”:
قيمته: أنه كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة.
موضوعه: أن تجدَ للمعنى الواحد أسماءً كثيرةً، فتبحثَ عن أصل كل اسم منها، فتجد مَعناه مُفضياً إلى معنى صاحبه.
المثال: كقولهم خُلق الإنسانُ فهو فِعلٌ مِن “خلقتُ الشيءَ”، أي مَلستُه؛ ومنه صخرةٌ خلقاءُ للمَلساء. ومعناه أن خَلْقَ الإنسان هو ما قُدرَ له ورُتبَ عليه، فكأنه أمرٌ قد استَقَرّ، وزالَ عنه الشكُّ.
ويكثُر في هذا الفنّ أن تأتي الألفاظ على وزن “فَعيلَة”: كقولهم “الطبيعة” وهي من طَبعت الشيءَ أي قَررته على أمر ثبت عليه، كما يُطبَع الشيءُ كالدرهم والدينار، فتُلزِمه أشْكالَه، فلا يمكنه انصرافُه عنها ولا انتقاله.
ومنها “النّحيتَة” وهي فَعِيلة من نَحَتَّ الشيءَ أي مَلستَه وقررتَه على ما أردتَه منه. فالنحيتة كالخليقة: هذا من نَحَت، وهذا من خَلقَ.
ومنها “الغريزة” وهي فعيلة من غَرَزْت كما قيل لها طبيعة؛ لأن طَبْعَ الدّرهم ونحوِه ضربٌ من وَسْمِه وتَغريزِه بالآلة التي تثبتُ عليه الصورة. وذلك استكراه له وغمز عليه كالطبع.
ومنها “النّقيبة” وهي فَعِيلة من نَقبت الشّيءَ، وهو نَحوٌ من الغريزة.
ومنها “الضّريبة” وذلك أن الطبعَ لا بدَّ معه من الضَّرب؛ لتَثبيتِ الصورة المرادَةِ له.
ومنها “النَّحيزة” هي فَعِيلة من نَحزْت الشّيء أي دَقَقْته؛ ومنه المِنْحاز: الهاوون؛ لأنه مَوضوعٌ للدفع به والاعتماد على المدقوق
والنَّحِيزَةُ الجبلُ المنقادُ في الأَرض، قال الأَزهريّ: أَصلُ النَّحيزة الطّريقةُ المُستَدقّة.
3 ـ في ثَقافة التّلَقّي:
للتواصُل البلاغيّ حركيّةٌ وتفاعلٌ بين المُرسِل والمتلقّي، فلَم يُلْغَ المُرسِلُ ولم يُقْصَ من هذه الحركيّة، بل يُعدُّ ركناً رَئيسًا، خلافاً لما يشيعُ عن نظريات التّلقّي من أنّها انتقَلَت من بلاغَةِ مُلْقي النّصّ إلى بلاغَة متلقّيه؛ فقد وُضعَ مَفهوم حركيّة التّواصُل بينهُما communication activity، لخرْق قاعدَة البنية المُغلَقة التي سَنَّها البنيويّون:
في كلّ شأن من شؤون الحياة ينبغي تأهيلُ عُموم النّاس المُخاطَبين بمشروع أو إبداع بليغٍ أو رأي أو فنّ ذي جماليّة، وتربيتهُم على إصدارِ فعلٍ أو سلوكٍ أو خلُق أو علمٍ مناسبٍ يرْقى إلى درجةِ الرّسالَة الإبداعيّة؛ فإذا أهمِلَ التأهيلُ وعُطّلَ هاجسُ التربيّة، فسنحصلُ على استجاباتٍ سلبيّة من عموم الناس، وأنواعٍ من السلوك والفهم والتّعاطي تُفسدُ المشروعَ وتؤثّرُ في صدقِه وقوّته وإبداعيّته، ولا يُنتظَرُ أيّ تفاعلٍ إيجابيّ يأتي من عُمومٍ غير مؤهّل يفتقرُ إلى مقوّمات الوعي والتفكير والثّقافَة ولا يَرْقى بالمشروع الذي قُدّمَ له وعُرضَ عليْه إلى درجات الإبداع والإنضاج.
يصحّ أن نقولَ : عُموم الناس في الغرب – خاصّة في أوربّا الغربيّة والشّماليّة – بحكم ثقافته العالية وبفعلِ تراكُم النّظريّاتِ البلاغيّة والحجاجيّة والتّداوليّة، وبفعلِ انتشارِ مَفاهيمِ القارئ المتلقّي من خلال نظريّات ِ التلقّي وجماليتِه وأفقِ انتظارِ القارئ… يستطيعُ عُموم النّاسِ بفعل ِالثقافَة الرّاقيةِ أن يكونَ متفاعلاً مُستجيباً استجابةً إيجابيّةً لكلّ مشروع يُقدّم لفائدته، أو أنموذجاً للتّفاعل الإيجابيّ المَحسوب المَدروس.
أجَلْ، يوجدُ في الغرب ثقافَة التّوعيّة والتّحسيس Awareness ونشر المعلومَة Information، والتأهيل Rehabilitation، والتربية على اليَقَظَة Vigilence والتربية على المواطنَة والمسؤوليّة Education on responsibility and citizenship.
4 ـ “إنّما المؤمنون إخوة”
كُرةُ القَدَم من الألعاب الرياضيّةِ الجسميّة والذّهنيّة التي تُدخلُ الفِرَقَ في منافساتٍ تنتهي بإحراز جوائزَ وألقابٍ وبُطولاتٍ… تظلُّ ألعاباً لا تَخرُجُ عَن حدِّها في لُغةِ المنطقِ، ولا تُدخلُ الفائزَ في التاريخِ البشريّ بعدَ أن كانَ خارِجَه ولا تُخرجُ المنهزمَ منه بعدَ أن كان داخِلَه.
فالألعابُ نَشاطاتٌ وفُرصٌ للتواصُل البشريّ والتعارُف والتَّقارُبِ وتبادُلِ الخبرَةِ واكتشافِ الجديد. فلا يَنبغي إخراجُها من دائرتها اللَّعِبِيّةِ واستغلالُها إعلاميا في أغراضٍ ومَعارِكَ كلاميّةٍ لا تزيدُ الناسَ إلا تَعادياً.
5 ـ
كثيرٌ من المُولَّفاتِ والمُترجَماتِ العربيّةِ المُعاصرةِ في موضوع “الاستعارة الجَديدة” وأسسها الذّهنيّة والنفسيّة وأطرُها الفكرية وفَلسفَتها، وما وراءَ ذلكَ من كَسر ثُنائيّة الحقيقة والمَجاز… جاءَت بكلامٍ غامضٍ وأسلوبٍ مضطربٍ فيه تداخلٌ وتَعاضلٌ ونَحتُ مُصطلحاتٍ ركيكةٍ لا تستقيمُ على قاعدةٍ صرفيّةٍ، ولكنّها تُنشَرُ على كلِّ حالٍ لأنّها أطاريحُ نوقشَت في الجامعات العَرَبية فحُوِّلَت إلى المَطابع على عَجَل، والغريبُ أنّك عندما تقرأ كلامَ أهل البلاغة العربية في “الاستعارَة” وما دوَّنوه في أقسامها وأركانها وفروعها ودلالات العبارات التي ترِد فيها وأوجه الجَمالِ والجَلالِ فيها، فإنك تقرأ كلاماً فصيحاً واضحاً مَفهوماً مُذلَّلَ العقبات مترابط الأطراف مَفهومَ الغاياتِ.
يقولُ القائلُ إنّ كلام البلاغيّين في وصف الاستعارة كلامٌ في علاقةِ الحقيقَةِ بالمَجاز، ووصفٌ للبنية اللغويّة والدّلاليّة، فحسبُ، بمعزلٍ عن علاقة الاستعارَةِ بالفلسفَة والفكرِ وآلياتِ الذّهنِ المُولِّد لها… وأنّ خطابَ البلاغة العربية المعاصرةِ يَغترفُ من أصول غرْبية تستمدُّ أصولَها من الأسس الذّهنيّة للاستعارَة وطريقةِ تصوُّرِ العالَم من خلالِها، وطريقة توجيهها للفهم والتأويل.
والحقيقةُ أنّ العلّةَ لا تَكمنُ في حديثِ البلاغة الجديدَة وما صارَت إليه من التماس علوم وفنون جديدةٍ، وليسَ الأمرُ في اصطناعِ حُقولٍ جديدةٍ ومواضيعَ مُستحدثَة. ولكنّ العلّةَ في أسلوبِ الكتابةِ العربية المُعاصرةِ وترجمة العُدّةِ الاصطلاحيّةِ إلى العربيّة، والعلّةُ كلُّ العلّةِ في قلّةِ زادِ الكاتبِ وضعفِ لغتِه وفَقرِ معرفته وهُروبِه إلى الَحَرْفيّةِ التّرجميّةِ ورَميِ القارئ البريءِ بعدمِ الفهمِ لجِدّةِ الموضوعِ.