لم تكتف جائحة كورونا بإرباك الاقتصاد وإنتاج الكثير من التداعيات الاجتماعية، وحسب، ولكنها كانت سببا رئيسا في إثارة الانتباه إلى وجوب التفكير في العلائق المفترضة بين المحلي والعولمي، وتحديد احتمالات التعاطي مع هذين المكونين الحاسمين في صوغ ممكناتنا الفردية والجمعية. لقد وعت البشرية جمعاء، خلال “رعب” كورونا الفائت/المستمر، أن العودة إلى المحلي والاستثمار فيه، من الممكن أن يعيد إلى المجتمعات توازناتها الضرورية، وتحديدا في ظل سياق الخطر والمخاطرة.
إلا أن هذه العودة ينبغي وأن تكون مشروطة بالعلم، فالعلم هو مفتاح الفرج، وألا تكون مسكونة بالشوفينية والانغلاق الهوياتي، فالمفروض أن نتكلم المحلي، بمختلف لغات وثقافات العالم، حتى نكون جديرين بالانتماء إلى شرطنا الحضاري الذي يوجب الانفتاح والتواصل والعيش المشترك.
مناسبة هذا الحديث أملتها الوضعية المأزقية التي آل إليها مهرجان قصبة بني عمار بمولاي إدريس زرهون، قريبا من سهل سايس بالمغرب، فبعد أن حقق هذا المهرجان نسبة عالية من المنظورية والحضورية الدولية، وراكم دورات محترمة شارك فيها كبار المثقفين والفنانين والرياضيين والسياسيين والفاعلين المدنيين من داخل المغرب وخارجه، وبعد أن صار موعدا سنويا للاحتفاء بالثقافة القروية، باتت الصعوبات المادية تعيق احتمال انعقاده، وتحد من إمكانية إشعاعه واستمراريته.
أتذكر جيدا كيف استطاع مهرجان بني عمار أن يجعل من “سباق الحمير” حدثا استثنائيا، استوقف وسائل الإعلام الدولية، وأكد بالملموس أن المحلي يمكن أن يفاوض العولمي في مستويات من الحضور و الفعل. وأتذكر كيف أن ذات المهرجان حاول يوما أن يطلق ولأول مرة في المغرب والعالم، ملتقى لسينما القرية، وكيف افتتن المخرجون السينمائيون بالمناظر الطبيعية لنزالة بني عمار، والتي تعد من الناحية الجغرافية منطلق سلسلة جبال الريف.
خلال سنة 2014 تحصل مهرجان قصبة بني عمار على جائزة دولية للخيول بسويسرا، وخلال سنة 2018 تم تسجيله ضمن قائمة التراث اللامادي الوطني، وبالرغم من مرور 23 سنة إطلاق فكرة هذا المهرجان، فإن المنظمين، وفي مقدتمهم الصديق الشاعر محمد بلمو، لم يتمكنوا إلا من تنظيم 12 دورة، وذلك بسبب محدودية الإمكانيات المادية. فباستثناء الدعم المشكور لوزارة الثقافة فإن الكثير من القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والخاصة، لا تقدم الدعم اللائق لمهرجان مبدع ومتجدد، فكرا وممارسة.
لقد بدا واضحا للعالم أجمع، أن الثقافات والقيم المحلية، كانت هي الملاذ الأخير والمحضن الآمن، الذي سمح بالتفاوض مع الأزمة والتداعيات الكارثية للجائحة، فعن طريق العودة إلى المحلي، كتضامنات جمعية وكبنيات ثقافية أولية، استطاعت الإنسانية أن تستنهض الهمم وتتجاوز المحن. ولهذا فإن التفكير في تحويل مهرجان بني عمار إلى مهرجان وطني سنوي للثقافات القروية، في أفق جعله بصيغة دولية في قادم الدورات، من شأنه أن يعيد الاعتبار إلى القروي الذي يسكننا. فالكلنا قرويون، والكلنا محتاجون إلى استلهام الدروس والعبر من هذا “المحلي/القروي” الذي يعلمنا في كل حين كيف نتفاوض مع الطبيعة ونحقق الأثر والشهود في سياق عولمي متحول ومنفلت.
ففي كل الثقافات القروية يحضر التناص الاجتماعي، ويصعب الادعاء بأن لها وجودا مستقلا عن بعضها البعض، فكل سجل معين إلا ويظهر مندمجا داخل سجل عام متقــاطــــع ومترابط مع أزمنة سابقة ومعاصرة، إذ تدخل مكونات التراث المادي واللامادي في علاقات تشابكية مع كثير من الحقول المجتمعية، وتمتد في اشتغالها وصيغ إنتاجها وإعادة إنتاجها، إلى أزمنة متباينة، وهو ما يجعل الاستثمار الثقافي فيها، منتجا، وبالضرورة، لعوائد قيمية وثقافية واقتصادية تمتد إلى مجموع النسق العام.
إن ترافعنا الجماعي من أجل مهرجان وطني، ودولي مستقبلا، للثقافات القروية بقصبة بني عمار، نابع أساسا من خصوصيات هذا المهرجان وذاكرته الحية والمستعادة، والتي تؤشر على رصيد غني من الإبداع والتجدد. إذ من الضروري أن تفكر وزارة الفلاحة وكافة المؤسسات التابعة لها، في احتضان هذا المهرجان وجعله موعدا سنويا، للاحتفاء بالقروي le rural والقروية la ruralité كنمط عيش ووجود. وهو ما يوجب على وزارة الثقافة أيضا الاستمرار في الدعم والاحتضان، اعتبارا لمجمل التراث المادي واللامادي الذي يحتضنه هذا الموعد السنوي. كما يفترض في مؤسسة متاحف المغرب بتعاون مع قطاع الثقافة والمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، التفكير جديا في إحداث متحف وطني للثقافات القروية بقصبة بني عمار، تحصينا وصونا لذاكرة المجتمع القروي المغربي.
لقد حرصنا في إطار مركز ابن خلدون لدراسات الهجرة والمواطنة، وبرفقة الصديق عبد الكريم مرزوق، في مناسبة سابقة على دعوة الباحثات والباحثين إلى الاشتغال على الطقوس والممارسات الفلاحية، لدراسة إثنوغرافيات التراث اللامادي، كما واصلنا ذات المسار بالاشتغال في إطار كتاب آخر يصدر قريبا على “الثقافات المحلية”، مع انتصار دائم للبحث الإثنوغرافي والمقاربة الأنثروبولوجية، أملا في الوصول إلى تأويل ثقافي ممكن لهذا الإمكان التراثي الذي نتوفر فيه، ويفترض فينا أن نعمل على جمعه وتوثيقه لأجل التثمين والاستثمار.
وكانت الخلاصة الأساس، هي وجوب “أن نتكلم المحلي” وأن نثق فيه ونستثمر كافة ممكناته، ومنه يكون ويتبرر الدفاع عن مهرجان وطني أو دولي للثقافات القروية بقصبة بني عمار، فالواقع الاجتماعي بما هو علاقات وأنظمة ذات دلالات رمزية ومادية، لا يمكن فهمه وتطويره إلا بهذا التعاون التراكمي، والإيمان المطلق بأن الثقافي منتج للثروة وملاذ استراتيجي في زمن التفاوض بين المحلي والعولمي. ولهذا نوجه نداء إلى كل الغيورين على التراث المادي واللامادي الذي تختزنه مجالاتنا القروية من أجل التعاون، وبمختلف الصيغ الممكنة، حتى يستعيد مهرجان قصبة بني عمار، عافيته وبريقه، ويتحقق الانتقال إلى درجة الانتظام السنوي والأفقين الوطني والدولي.
*أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بجامعة محمد الخامس، الرباط