
غالبا ما يتساءل أفراد المجتمع عن مثقّفيهم وماذا حققوا للمجتمع وأين هم من النقاش العمومي؟
ولئن كانت هذه الأسئلة مشروعة، فإن هناك جانب من القضية ينبغي أن يُطرح أيضا.
المثقف هو إنسان يصيبه ما يصيب مجتمعه من شجاعة وخوف، من إقدام وإدبار؛ عندما يجد نفسه محتضَنا من مجتمعه، وصوته مسموعا ومحتفى به، ورأيه يلقى تفاعلا واسعا، فإنه آنذاك يزيد من فعاليته، ويطور من مواقفه. أما عندما يجد نفسه مهجورا لصالح جهات أخرى، ورأيه مرميا على قارعة الطريق لا حامل له، وصوته مقموعا لا ناصر له، فإنه في هذه الظروف يتقوقع على ذاته ويكتفي برصد حالة المجتمع بدل تزويده بالموقف، وسيتّخذ زاوية التحليل بدل المبادرة.
نعم صحيح أن المثقف ينبغي أن يمتلك الشجاعة في جميع الأحوال، لكن هذا لا يتحقق دائما ولا يتحقق للجميع؛ فالمثقف موقف وليس مهنة كما قال سارتر، والموقف من دون سند مجتمعي لا فائدة كبيرة منه.
لقد رفص أحد الكتاب المغاربة تسلُّم جائزة عن كتابه قائلا: “لن أتسلم جائزة عن كتاب لم يطالعه حتى 1000 مواطن”.
يكتسب المثقف شجاعته في حقيقة الأمر من شجاعة مجتمعه، لذلك عندما يرغب المجتمع في توجيه اللوم للمثقف، عليه أيضا لوم أفراده الذين يلتفّون حول التفاهة بشتى ألوانها.
هناك العديد من الكتابات لمثقفين، يعبرّون فيها عن آرائهم بقوة، لكن تلك الآراء متابعة من قِبل قلة من المواطنين، وعندما تنظر في أماكن أخرى تصادف “لا موقفا” و”تفاهة” يصفق لهما مائات الآلاف.
سأل مواطن كاتبا سياسيا: لماذا لم أعد أقرأ لك؟ أجابه: أين كنت تقرأ لي؟ أجاب: في صفحة الرأي. سأله الكاتب مرة أخرى: منذ متى لم تطالع صفحة الرأي؟ أجابه: منذ سنة تقريبا، فالوضع السياسي في المغرب أصبح مملا. سأله الكاتب مستنكرا: وكيف تريدني أن أكتب في صفحة لم تعُد تطالعها؟!!
سأل متظاهرٌ أحد الأدباء من الذي شاركوا في مسيرات 20 فبراير، أينهم باقي المثقفين؟ أخذه الكاتب من يده، وتجول به في المسيرة: هذا فلان، وقد صدر له عشرات الكتب، هل تعرفه؟ أجاب: لا. هذا شاعر أصدر عشرات الدواوين، هل تعرفه؟ أجاب: لا. هذا كاتب مخضرم أشرف على مجلات وقدّم مئات المحاضرات ونشر مجموعة من الكتب ولديه مقال رأي أسبوعي، هل تعرفه؟ أجاب: “ربما أعرفه”.
عندما نريد أن نشاهد كرة القدم، نذهب إلى الملعب أو نشترك في القنوات الرياضية، وأما عندما نريد أن نعرف مواقف المثقفين، فنحن ننتظر أن نجدهم في قارعة الطارق وبجانبهم لافتة مكتوب عليها “أنا مثقف”، بدل أن نبحث عنهم في المكتبات أو نطالع ما يكتبون في الجرائد والكتب والمجلات أو نحضر البرامج الحوارية والمناظرات العلمية واللقاءات الثقافية التي دعواتها عامة وكراسيها فارغة…إلخ.
لذلك أظن أن النقد ينبغي أن يكون مزدوجا للمثقف وللمجتمع، فلمّا شعر أمثال سارتر وفوكو باحتضانهم من قِبل المجتمع، ورصدوا حيوية الشعب، نزلوا بأنفسهم للشارع ووزعوا المنشورات المطالبة بتنحّي الرئس ديغول سنة 1968، حتى أن مفكرا من طينة سارتر رفض الحصول على جائزة نوبل، ليس لأن كتبه لا تُقرأ، وإنما لأنها تقرأ بشكل كبير، ومواقفه مؤثرة في مجتمعه، لذلك عندما أخبروه بأنه حصل على جائزة نوبل، أجاب: أنا أرفصها. وأكمل غذاءه.
ولأن المثقف موقفٌ وليس مهنة، فإن ليس كل متعلم أو حتى كاتب أو أديب أو شاعر أو عالم هو مثقف بالضرورة، وإنما يصبح أمثال هؤلاء وغيرهم مثقفين ولو من دون شواهد جامعية، حينما يكون لديهم من المواقف ما يسند مواطنيهم، ويساهم في التنوير الفكري والتوعية السياسية، وعندما يغيب الموقف تنتفي صفة المثقف.