الدولة تفرض اللغة الفرنسية بالقوة والقهر، وتعمل على حمايتها ودعمها بكل ما لديها من وسائل التحكّم والنفوذ المباشرة وغير المباشرة. وحتى إذا ما مارست الحياد الظاهري أحيانًا فهي تمارسه بسلبية قاتلة مقصودة ومتعمَّدة، ولا تلجأ إلى ذلك إلا إذا علمت أن تخلّيها عن ممارسة الدعم المباشر لا يُلحق ضررًا بتلك اللغة ولا يُؤذيها في شيء، تفعل ذلك حتى وهي تعلم علم اليقين أن نتيجة ʺالحيادʺ ستأتي بأضرار فادحة على اللغة الوطنية الرسمية. وكأن الدولة في هذه الحالة، مجرد (شاهد ما شاف شي حاجة). أين هي وظيفة الدولة الموجِّهة والمخطِّطة والساهرة على مصلحة البلاد والعباد؟
خذ من المشاهد اليومية المألوفة على الدعم المباشر، ما تراه على واجهات كل الإدارات والمصالح التابعة للدولة، من لافتات تحمل عناوين تلك الإدارات والمصالح، وهي في الغالب الأعم مكتوبة بثلاث أبجديات: العربية والأمازيغية والفرنسية، وأحيانا بالعربية والفرنسية وحدهما. ولا يتعلق الأمر باللافتات وحدها، بل بالأوراق الإدارية الرسمية التي تطبع عليها كل المراسلات والقرارات والتوجيهات وغيرها من الأمور، فهي أيضا مرَأَّسة بالأبجديات الثلاث، ولا تكاد تخلو من الأبجدية الفرنسية.
في التحليل السيميائي للرموز والعلامات، يعدّ هذا الفعل خطابا واضحا ومباشرا وملحًّا للمواطنين أينما كانوا، له ثلاث قراءات تتَساند فيما بينها وتتعاضد لتأكيد ثلاثة أمور:
أولها: أن التعامل بالفرنسية مضمون بشكل رسمي، وتحت حماية الدولة، في كل المصالح الإدارية وفي كل الوثائق الرسمية، والتخاطب بها مع كل موظفي الدولة مكفول أيضا. والمواطن له خياران: فإما أن يستعمل لغته الوطنية، إذا وجد من موظّفي الإدارات والمصالح من يتقبّل منه ذلك دون اعتراض أو امتعاض أو غمز ولَمز، أو محاولة تملّص، وإما أن يستعمل الفرنسية. وسيجد حينها، بكل تأكيد، كل الموظفين والعاملين يشجّعونه على استعمالها حتى ولو لم يتقنوها. وهذا أمر مستغرب ومستشنَع في دولة مستقلة وذات سيادة.
والثاني، وهو الأنكى والأشد إيلامًا: يؤكد أن وجود الفرنسية في الإدارة وكل أجهزة الدولة، أصبح ضرورة لا مَحيد عنها، ليس إرضاء لرغبات المواطنين الذين يُفترَض فيهم أن يتقنوا لغتَهم الوطنية ويستعملوها قبل أية لغة أخرى، ولكن إرضاء لبعض الأجانب إن وُجدوا، وفئة قليلة جدا من الفرنكفونيين الذين تشجّعهم الدولة على الاستمرار في إهمال لغتهم الوطنية وتحقيرها، وتُشعرهم بأنهم لن يحتاجوا إلى تلك اللغة الوطنية، تكفيهم اللغة الأجنبية التي يرطنون بها. هذا الفعل لا أصنّفه ضمن قائمة المواقف الحيادية للدولة، لأنه كما فسّرت، منبعِث من حرص أجهزتها الرسمية على توجيه تلك الخطابات بإشارات واضحة غير مشفَّرة.
بالإضافة إلى هذا الإيحاء الواضح الدلالات، هناك إيحاء ثالث مقصود ومتعمَّد أيضا؛ وهو أن اللغة الفرنسية رغم كونها لغة أجنبية وليست دستورية، وليس هناك أي منطق يسوِّغ الإصرار على إشهارها وتعليقها على واجهات كل الإدارات والمصالح العمومية فضلاً عن الخصوصية، وكتابتها في رؤوس الأوراق الإدارية الرسمية مهما كان شأنُها، فإن الدولة تصرّ مع ذلك، على خرق الدستور، وعلى إبلاغ رسالة لعموم المواطنين بأن هذه اللغة الأجنبية، التي تتجاوز الدستور وتتحداه على مرأى ومسمع من الجميع، بما فيهم أعوان السلطة الذين يسهرون على تطبيق القانون، يجب أن تحترم وتُرفع لها القبّعة في كل أجهزة الدولة، وأنها ما تزال، رغم أفول عهد الاحتلال، باقية لتؤكد استمرارية مشروعه، ولترسّخ في أذهان الجميع أنها اللغة الضرورية التي لا محيد عنها ولا مناص منها، أحبَّ من أحبّ وكره من كره. فإذا كانت اللافتة المعلقة، قد تفسَّر ظاهريًا بأن موقف الدولة حيادي في هذا الموضوع، إلا أن هذا الإصرار على استعمالها إلى جانب اللغة الوطنية في كل الأماكن البارزة التي تشدّ إليها أنظارُ المواطنين، له معنى صريح يفضح تلك الحيادية المزعومة ويكشف غطاءها.
هذا مثال واحد من بين الأمثلة الأخرى التي لا حصر لها ولا عدّ، على الحياد الظاهري الذي هو في حقيقته دعم مباشر للغة الأجنبية وإصرار عنيد على المحافظة عليها بكل شكل من الأشكال الممكنة.
وحتى ولو أغمضنا العين وجمَّدنا منطقة التفكير في الدماغ، وسلَّمنا بالحيادية المزعومة، سيبقى هنالك السؤال المزعج الملِحّ: ما معنى أن تكون الدولة حيادية في موضوع يتعلق بالسيادة الوطنية؟ أليست اللغة رمزًا من رموز السيادة، مثلها مثل العلَم الوطني والطابع البريدي وغيرهما من الرموز الأخرى؟ لماذا نقتدي بفرنسا في كل شيء إلا في حماية لغتنا والتخطيط المدروس لدعمها وتقوية وضعها، مع أننا نعرف أن موضوع اللغة بالنسبة لهذه الدولة موضوع حسّاس جدا، ومقدّس جدا، ومحميّ بترسانة كبيرة من القوانين والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية الساهرة على دعم وجودها وانتشارها وازدهارها؟ هذا النوع من الأسئلة نطرحه مجاراةً لمن يفسِّر موقف الدولة إزاء اللغة الوطنية بالحيادية التي تدخل ضمن بند الحريات العامة، وإلا فإن الواقع الذي تعزّزه الكثير من الأمثلة والوقائع، يؤكد أن الدولة ليست محايِدة على الإطلاق في هذه النقطة، بل هي ضالعة في تعزيز وضع اللغة الأجنبية وإضعاف وضع اللغة الوطنية لاسيما العربية بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
وللحديث بقية