سبق أن قلنا إن شعار ʺالفرنسية غنيمةʺ صار له أنصارٌ ودعاةٌ وحُماة، يتناسلون ويتكاثرون، ويتنافسون في تفريخ أجيال من أقنان الفرنكفونية وشُركائها في المنافع والمصالح، ويتعاظم نفوذهم وسيطرتهم على مراكز القرار. وما حدث في الآونة الأخيرة من تحوّل جذري في سياسة الدولة التي تراجعت عن استعمال العربية في تدريس المواد العلمية بعد أربعة عقود من التجربة التي لم يستطيعوا إثبات فشلها بأي دليل ملموس، وعادت إلى فَرض الفَرْنسة بقوة القانون هذه المرة وليس بدورية داخلية أو مذكرة وزارية أو أي كلام، إنما حدَثَ بفعل نجاح هذه الكتلة في فرض توجّهها واختيارها على الشعب المغربي قاطبة. وهو توجّه أصبح اليوم يستهدف كل مكوّنات المجتمع ويضرب في عمقه وجذوره، ولاسيما بعد فرض إلزامية تدريس اللغة الأجنبية بدءًا من مرحلة الروض الأولى، ولم يبق أمامهم إلا أن يخترعوا حُقنة تُحقَن بها النساء الحوامل، حتى إذا وضعن حملَهنّ، وضَعنَ أطفالًا يتكلمون الفرنسية من أول يوم في حياتهم.
ومن الواضح أن هذه الخطوة التي نجح فيها اللوبي الفرنكفوني المتحكّم في السياسة اللغوية بالمغرب، قد أتاحت له المجال لإعادة تنظيم صفوفه وشحذ شعاراته لإنجاح فكرة أخطر من سابقتها، ملخّصُها إقناع المغاربة بأن الفرنسية لم تعد تلك اللغة الأجنبية التي جاء بها الاحتلال لمزاحمة العربية والقضاء عليها، وإنما يحاولون اليوم إلباسَها جلبابًا وعِمامة وبُلغة مغربية ليُعيدوا إخراجها على خشبة المسرح وقد سُلِّطت عليها أضواءُ جديدة، وتقديمَها على أنها جزءٌ من تقاليدنا ومكتسباتنا الأصيلة، وواقعنا الذي لا يرتفع، وموروثنا الثقافي الذي ساهم فيه الجميع.
على أن هذه الفكرة الجديدة التي أصبحوا يُعلنون عنها اليوم من فوق منابر أكاديمية لها اعتبارُها وتقديرُها، وتُسخَّر لها أجهزةُ الدولة وإمكانياتُها وطاقاتُها البشرية والمالية واللوجستيكية أحيانًا، ليست إلا مجرد تمهيد لما هو أخطر وأكثر تهديدًا لهوية البلاد والمنطقة، وقد بدأ العمل عليه في صمت مكشوف، ولا يُنتظَر إلا الوقت المناسب للإعلان عنه. فبمجرد ما تتهيأ الظروف وتقطع عمليةُ الفَرنسة التامّة للمجتمع أشواطًا أخرى متقدّمة تنعدم معها كلُّ إمكانية حقيقية للمقاومة على أية واجهة من الواجهات السياسية والإعلامية والأكاديمية والصراع الثقافي، سيتمّ الانتقال إلى المطالبة بإدراج الفرنسية ضمن زمرة اللغات والثقافات الوطنية المعترف بها دستوريّا في شكل لغة وطنية أو رسمية. فبعد مرحلة 2011 التي جاءت بفكرة ʺحماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة بالمغربʺ، وحشرَت العِبرية ضمنها، وهيّأت العقول والنفوس لابتلاع المفهوم السطحي وʺالشعبويʺ لمسألة التعدد اللغوي، هناك، اليوم، من يعمل بجد وتفانٍ على دَحرجة الفكرة حتى تصل إلى مرماها البعيد، وهو القبول بالفرنسية ضمن الفسيفساء اللغوي المُشكِّل لهذا التعدد في أبشع صوره. ومن ثمّ التحضير للانتقال إلى مرحلة ترقية مكانة اللغة الأجنبية وإلباسها لباسًا وطنيّا ومنحها غطاءً قانونيّا، وهو الوضع الذي لم يكن الاحتلال نفسُه قد استطاع أن يحققّه ويجسّده على أرض الواقع، فجاء اليوم من خُدّامه وأقنانه من يتطوّع سافِرًا لاستكمال تلك المهمة على أكمل وجه.
التحضير جارٍ حاليًا، لتهيِيء الظروف لتمرير هذه الفكرة الجهنَّمية ولو بجملة واحدة تضاف إلى نص الدستور تفيد أن اللغة الفرنسية أصبحت مكوّنًا أساسيّا من مجموع التعبيرات اللغوية المستعملة بالمغرب. وإذ ذاك سنستمع إلى التصفيق الحارّ، ويُسدل الستار على ضرورة التعامل معها تعاملًا جديدًا على أساس من الاحترام التام، لا يقل بحال عن الاحترام الواجب لكل لغة رسمية أو وطنية حقيقية. وسيكون القانون واقفًا كأي حارس قويّ بجانبها، لحمايتها ومنع التعرّض لها بأي مسٍّ أو أذى.