السمة الطاغية على الوضع اللغوي بالمغرب هي سمةُ الفوضى والتسيّب. هذه السمة لها تجليات سلبية من بينها:
• أن العربية مثلاً تعد من الناحية القانونية لغة رسمية منذ أول دستور(1963)، بل هي اللغة الرسمية في الإدارة والعلم والتعليم والقضاء والتشريع فضلاً عن الدين، واللغة العالِمة في المغرب منذ دخول الإسلام، ومع ذلك لا يوجد لحد اليوم أي مرسوم تنظيمي وتطبيقي لتفعيل هذا الترسيم الدستوري وتنزيله. فهي رسمية في ورقة الدستور وغير رسمية في التعامل الواقعي معها. وهذا خلل كبير، وعلامة استفهام كبرى حول من الذي يعوق تحويل التشريع الدستوري إلى نصوص تطبيقية؟ من يقف وراء ذلك؟ هل هي سياسة مرسومة ومخطط لها أم هو مجرد لا مبالاة وإهمال لهذا الموضوع الحيوي جدا؟
• في المقابل: اللغة الفرنسية ليست لغة وطنية ولا رسمية ومع ذلك فهي المستحوِذة على أهم المجالات في الإدارة والتعليم والإعلام والاقتصاد والتجارة والعقود والالتزامات والشركات… الخ، من غير حاجة حتى إلى تشريع أو نص تنظيمي. • اللغة الأجنبية تقوم بدور اللغة الرسمية، واللغة الوطنية لا تقوم إلا بدور المساعد أو الخادم لها في كثير من الحالات. وهذه ظاهرة خطيرة.
• هذا يطرح من جهة: تغوّلُ اللغة الأجنبية وتطاولها على حقوق اللغة الوطنية والتعدّي على وظائفها حتى في المجالات التي لا يُحتاج فيها إلى استعمال اللغة الأجنبية. ويطرح من جهة أخرى قضية كبيرة جدا هي غياب مفهوم السيادة اللغوية في تفكير الدولة واستراتيجياتها، وغياب مفهوم الاستقلال اللغوي والثقافي الذي يتأسس عليه استقلال القرار السياسي والاقتصادي، وحين يغيب مفهوم السيادة والاستقلال يحل محله مفهوم التبعية بكل أبعادها اللغوية والاقتصادية وغيرهما.
• ثنائية bilinguisme الفرنسية / العربية أصبحت مفروضة واقعيّا وتتوسّع بشكل مخيف وسط المجتمع، وأحد أسباب موت اللغة الوطنية وضمورها وتراجعها تغلغل هذا النوع من الثنائية ( لغة أجنبية/ لغة وطنية). بينما هناك ثنائية أخرى طبيعية غير مفروضة لكنها نابعة عن الاستعمال الطبيعي والعادي للغتين وطنيتين (عربية/ أمازيغية ) عاشتا طوال التاريخ جنبا إلى جنب
• اللغة الأجنبية، مهما كانت أهميتُها، لا يجب أن تتجاوز حدودها ووظيفتها الأساس، لتتصدّر المشهد اللغوي بدل اللغة الرسمية والوطنية التي تعبر عن هوية البلاد والمجتمع قديما وحديثا.
• كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن التعدد multilinguisme والتنوع diversité اللغويّين، لكن بأي مفهوم وبأي؟ معنى؟ هل بمعنى الفوضى اللغوية، والانفلات والتمزّق والتشظّي؟ هل بمعنى التقليل من حضور اللغة الوطنية الرسمية وإخفات صوتها؟ هل هو مجرد ستار تتخفَّى وراءه مقاصد أخرى كقليص وجود العربية إلى الحد الأدنى وتخفيض هامشها إلى أن يصل لدرجة الربع أو العشرة في المئة أو درجة الصفر؟
• قبل الاستعمار لم يكن الأمر يحتاج لقوانين تنظيمية ولا حتى لتشريع دستوري، لأن وظائف كل لغة من اللغتين الوطنيتين بلهجاتهما المختلفة كانت محدَّدة ومعروفة بشكل تلقائي، وكان هذا العرف الجاري به العمل بمثابة دستور أو قانون غير مكتوب. أما اليوم فقد دخل على الخط عنصر اللغة الأجنبية، وتعاظمت وظائفها وتقوّى حضورُها لينتقل من دور الانفتاح والتثاقف إلى دور الهيمنة والتسلّط بل إلى دور الابتلاع الافتراس.
• هناك خلط في أذهان الكثيرين بين الوظائف التي ينبغي أن تناط بالمستوى المعياري من اللغة وبين ما يناط بمستواها الدارجي، جعل بعض الأطراف البعيدة عن المجال والتخصص اللغوي والبيداغوجي تدعو لإحلال الدارجة محل الفصحى وتحاول تسويغ ذلك بما لا يسوَّغ، تستمد أقوالها الشعبوية من أجندة سياسية مبنية على فَرْضية مغلوطة تمامًا لا واقعية لها ولا علمية ولا موضوعية، وتزعم أن الدارجة هي اللغة الوطنية الوحيدة للمغاربة والفصحى لغة أجنبية. وهذا من أبرز ملامح الفوضى التي تسمح لكثير من المتطفلين ولكل من هب ودب للتدخل في موضوع حساس كهذا، ممن لا صلة له به ولا معرفة ولا تخصص.
• هناك من يتصور أن العلاقة بين العربية والأمازيغية هي علاقة صراع، وأن إحداهما تريد طرد الأخرى واجتثاثها. وهذا كلام يسمّم الأجواء ويؤسس لصراع طائفي وعرقي لم يكن له وجود في المغرب قبل مرحلة الاستعمار الذي كان السبب في خلق هذا الوهم ونشره وتغذيته.
• هناك إغماض للطرف متعمَّد ــ فيما يبدو ــ لعدم التدخل في كل ما يُستعمل من اللغة العربية في كل المجالات ولاسيما مجال الإعلام بأشكاله المختلفة. فليست هناك أية مواكبة لما يُستعمَل أو محاولة التدخل بالتصحيح والتوجيه، مهما بلغت درجة التحريف والخطإ والشويه، سواء كان الخطأ كتابيا أم شفويا. المجال مفتوح لكل من شاء أن يقول ما شاء ويكتب ما شاء بأية طريقة شاء حتى لو تعلق الامر بوثائق ومناسبات ومجالات رسمية. وهذا ما أدى ويؤدي باستمرار إلى هجنة وتشويه لغويين لا أحد يلتفت لهما أو يفكر في وضع آليات للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.
• كل هذه الأمور والسمات أصبحت تستدعي العمل على عقلنة المشهد اللغوي وضبطه وفق تخطيط لغوي حكيم وبناء، وسياسة لغوية محدَّدة الأهداف واضحة المعالم، يُتوخَّى منها الأثر الإيجابي الذي يساهم في إثراء المشهد اللغوي، والاستفادةِ من التنوع البشري والفكري والثقافي وتفتُّحِ المجتمع وتيسير سُبُل التعايُش السلمي بين مكوّناته، لكن بشرط ضروري وهو ألا يكون ذلك على حساب اللغة الوطنية والرسمية.
• كل الدول التي لجأت إلى وضع تخطيط لضبط خريطتها اللغوية، فعلت ذلك بثلاثة دوافع: أ ـ حماية لغتها أو لغاتها الوطنية وخصوصياتها الثقافية قبل كل شيء حتى لا تضيع وتتهشَّم بمعاول اللغات الخارجية الوافدة مهما كانت أهميتها. ب ـ تتمية لغتها أو لغاتها الوطنية وتطويرها. ج ـ حماية المجتمع من التمزّق الفكري والثقافي وانعدام الأمن اللغوي وتعميق الشروخ بين شرائح المجتمع وإذكاء الصراعات اللغوية التي تُغذي الإيديولوجيات المتحاربة وتؤدي إلى تفتيت الشخصية المغربية، وهو ما لن يساعد على الاستقرار الذي هو ضرورة ملحّة لكل تنمية حقيقية شاملة.
• التخطيط اللغوي المطلوب يجب أن يضمن لمختلف التعبيرات المتداولة، ولاسيما الوطنية منها، وجودها ونموها الطبيعي، في تكامل للأدوار والوظائف، مع الاحتفاظ للغة الرسمية والوطنية المشتركة الأكثر كفاءة وتجربة في المجال العلمي مكانتها ووظيفتها الأساسية في التعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام والحياة العامة، والحد من تغول اللغة الأجنبية.
• الاهتمام باللغات الأجنبية لا ينبغي أن ينسينا ما هو أهم وهو تنمية لغتنا الوطنية وترقيتها ودفعها لتحتل مكانتها العالمية على كل الأصعدة. إذن، لا بد من إعادةِ الاعتبار للغة الرسمية والوطنية المشتركة التي لها تجربة طويلة في المجال الثقافي والعلمي والتعليمي وتراكم علمي وحضاري، وجعلِها لغةَ التلقين والتدريس الأساسية ولغةَ الإدارة والاقتصاد والمعاملات المختلفة، إذا كنا نريد حقا بناء مجتمع قوي موحّد منسجِم متلاحِم، مع ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية ولاسيما الأنجع منها والأفيد لمستقبل بلادنا وأبنائنا.
• منذ الاستقلال، ونحن نسمع أن العربية تحتاج إلى تهيئة وتنمية وتطوير لكي نستخدمها في تعليم العلوم والتقنيات. فمتى تتم هذه التهيئة إن كانت هذه اللغة تحتاج إلى ذلك حقا؟ وما الذي فعلوه من أجل إنجاز هذه التهيئة إن كان الأمر كذلك؟ وما هي الآليات التي ينبغي وضعها لتحقيق ذلك، ولاسيما أن إحدى الآليات التي كان يمكن الاستفادةُ منها في تطوير العربية، قد صدر بها قانون منذ عشرين سنة ولم يفعّل ذلك القانون لحد اليوم (أعني أكاديمية محمد السادس)؟ مع أن الحقيقة هي أن العربية ليست لغة في طور النشوء ومرحلة الطفولة فتحتاج لمن يعلمها طريقة المشي، وليست لغة كسيحة تحتاج لمن يروّض عضلاتها على الحركة، فتجربتها في مجالات العلوم قديمة وطويلة جدا ومعترَف بها عالميا، وهي أكبر وأغنى من تجربة الفرنسية في هذا المجال.
• ثم إن تنمية اللغة لا يمكن أن تسبق مرحلة الاستعمال وإنما تكون مصاحِبة لها ومواكبة، فتنمو بنموها وتزداد بازديادها. واستعمال اللغة في كل المجالات ولاسيما مجال العلوم التجريبية والتقنية والهندسية والرياضية والطبية والصيدلية وغيرها، هو الذي يتيح يح لها فُرصة النموّ والتطور . إذن، تعليق استخدام العربية في المجالات العلمية إلى أن تتحقق التهيئة، مجرد خُدعة وتسويف ومماطلة لإلهاء الناس وشَغلهم إلى أن يُنسَى الموضوع ويُحفظ الملف، كما يقال في لغة المحاكم.