ما لا ينتبه إليه الكثيرون، هو أن المحتلّين حين هجموا على المنطقة المغاربية، صاروا يروّجون لفكرة زائفة، مع علمهم اليقينيّ بزيفها، وهي أن هذه البلاد لم تكن فيها لغة قوية عالِمة جامعة صالحة للقيام بالوظائف التي تقوم بها اللغات العالمية الكبرى من تواصل مشترك وتعليم وتسيير للإدارة والاقتصاد وتنظيم للحياة العامة، ونحو ذلك، وإنما كانت فيها مجموعة كبيرة من اللهجات الصغيرة بين عربية وأمازيغية غير مؤهَّلة، وأن الفرنسية هي اللغة الوحيدة التي كانت تملك القدرة على القيام بتلك المهام والوظائف ولاسيما في العصر الحديث، ولتطبيق هذه الفكرة، ركّزوا في سياستهم اللغوية على ناحيتين مهمتين :
الأولى: محاولة تحطيم العربية المشترَكة (الفصحى أو المعيارية) وهي اللغة العالِمة الواسعة الانتشار في المشرق والمغرب في حدود الوظائف الموكولة لها. والمؤهَّلة حقّا للوقوف في وجه الفرنسية وأية لغة أوروبية أخرى ومُنازلتها نِدّا لندّ، والعمل على تنحيتها من طريقهم، وتهميشها وترويج الدعايات المغرِضة التي تشوِّه سمعتها، وتلفيق التهم لها بالعجز والشيخوخة والتخلّف، وسلبِها كلّ مزية أو فضيلة، وتجريدها شيئًا فشيئًا من أغلب المجالات التي كانت تحت تصرّفها من تعليم وإدارة وقضاء وتجارة واقتصاد وغير ذلك، والتشكيك في أهليّتها ومقدرتها على القيام بالوظائف التي تُوكَل للغات الكبرى الحديثة.
الثانية: التركيز على اللهجات العربية والأمازيغية، وتضخيم حجمها ودورها وتوسيع خرائطها وأطالسها وتشجيع الدراسة والبحث فيها، وإنفاق الأموال الطائلة على الدعاية لها، وتشجيع من يعمل على تقعيدها وجمع معاجمها وإقحامها في التدريس والتعليم رغم قصورها الواضح، وبذل الجهود الكبيرة لإقناع الناس بأن هذه اللهجات هي التي تمثل اللغات الحية الصالحة للحاضر والمستقبل، ويمكن الاكتفاءُ بها عن الفصحى لغةَ الماضي التي كان يحلو لهم نعتُها ب ʺالعربية الكلاسيكيةʺ (لاراب كلاسيك)، وقد بلغت في نظرهم مرحلة العجز والشيخوخة، ووقفت على حافَّة القبر، ولم تعد تصلح لشيء سوى لقراءة القرآن على القبور ودعاء الربّ في الصلوات. ونحن، لسنا هنا بصدد الردّ على هذه التُّهم الغليظة الموجَّهة الفصحى، فقد فعلنا ذلك في مناسبات كثيرة، وقدّمنا الحجج الكثيرة على ما في هذه المقولة من مغالطات وتشويه للواقع، وتضخيمٍ وتلميع للغة أرادها الاحتلال إحلالها محل لغة الأمة الجامعة المشترَكة.
كان الغرض الواضح من هذه الخريطة التي رسموها للوضع اللغوي في المنطقة، وحاولوا إقناع الجميع، بما فيهم أهل البلاد وسكّانها، بصحتها ومطابقتها للواقع، هو الوصول إلى خلاصة مفادها أن لا مفرّ لأهل المنطقة من التخلّي عن الفصحى، وتعويضها باللغة الفرنسية المؤهَّلة وحدها لتكون لغةَ التواصل المشترك الداخلي والخارجي، ولغةَ التعليم والتفكير والثقافة والتجارة والإدارة والاقتصاد والإعلام والحياة العامة. وإذا بقي هنالك من حنين إلى لغات الأوطان ولهجاتها، فليكن حنينُهم إلى لهاجاتهم المحلّية كلُّ حسب عِرقه وطائفته وبني قومه، وكل حسب ناحيته ومنطقته وقبيلته وقريته.
لقد تمكَّن الاحتلال الفرنسي بسهولة من فرض هيمنة لغته على عدد من البلدان في إفريقيا الغربية وجنوب الصحراء، لأنهم لم يجدوا هناك ــ في الغالب الأعم ــ سوى مجموعة من اللغات المحلّية الضعيفة، مع بعض الاستثناءات الخاصة (الهوسا في الغرب والسواحلية في الشرق) . ورغم أن العربية كانت منتشرة في أغلبية تلك المناطق، فإن وجودها كان بدوره ضعيفًا، لأن استعمالها لم يكن يتجاوز نطاق التعليم والمجال الديني. ولذلك أراد الفرنسيون، أو تمنّوا، أن ينقلوا هذه التجربة بحذافيرها إلى منطقة الشمال الإفريقي، رغم أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن وضع العربية في الشمال لا يمكن أن يقارن بوضعها في الجنوب. وهكذا صاروا يعملون بكل الوسائل على إخفاء الفصحى أو اختفائها وإزاحتها من الطريق، حتى يسهل عليهم نقل وظيفة اللغة العالِمة والمشتركة من العربية إلى الفرنسية.