تناقلت وسائل الإعلام هذه الأيام ذلك الخبر المستفزّ الذي استقبله العالم الإسلامي بكل استهجان واستغراب، عن واقعة المُدرِّسة الفرنسية التي عنَّفت تلميذًا لمجرد أنه وجّه التحية لزملائه في الفصل الدراسي بعبارة: ʺسلام عليكمʺ. لم يكفها التعنيف، فرفعت تقريرًا عنه إلى مديرة المؤسسة التي اتخذت ضده إجراء عقابيّا صارمًا، وهدّدته بالطرد إن عاد هو أو غيره من التلاميذ، للتلفّظ بتلك الكلمة أو بأية كلمة عربية أخرى داخل المدرسة .
دع عنك الآن، ما ينمّ عنه هذا التصرف الأرعن من حقد أعمى على الإسلام والمسلمين، وغطرسة وتعصّب عرقي طائفي، وما يدل عليه من ضيق الأفق الثقافي في بلد الأنوار، وما وصلت إليه العقلية الغربية المتبجِّحة بحمل رسالة الحضارة والقيَم الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمساوة والديموقراطية والتسامح الديني…. من تناقض في التفكير وازدواجية في المعايير، حتى وهي تدعو للتعدد اللغوي وتشجّعه وتمارس كل الضغوط الاقتصادية والسياسية من أجله خارج حدود بلدانها ومستعمراتها، وتمنعه منعًا صارمًا داخل مجتمعاتها ومدارسها ومؤسساتها، وتَحرِم آلاف الأطفال المنحدِرين من أصول عربية وإسلامية، من فرصة تعلّم لغات شعوبهم وثقافاتهم الأصلية في مدارس الدولة التي يساهم أولياؤهم في بنائها وتمويلها بواجبهم الضريبي. وقد سبق أن أشرنا في مقال آخر إلى تصلّب مرشّح اليمين المتطرف لرئاسيات 2022: إريك زمّور، وتشدّده أمام الفكرة الداعية إلى السماح بتعليم العربية لأبناء المواطنين الفرنسيين ذوي الأصول العربية والإسلامية، وما أكثرهم.
دع عنك هذا، ولنخض في حديث غيره، عن جانب طريف من الجوانب الأخرى للقضية: فحتى لو سلَّمنا تجاوزًا بحق المُدرِّسة والمؤسسة التي تنتمي إليها، في منع تلاميذهما من استعمال أية ألفاظ غير الألفاظ الفرنسية، فهل يمكن أن نسلّم بأن عبارة: ʺسلام عليكʺ، أو (salamalec) ليست عبارة فرنسية، رغم أنها دخلت إلى تلك اللغة منذ سنة 1559م، وعُمِّرت فيها واستقرّت لخمسة قرون في سلسلة طويلة من الآباء والأجداد، واكتسبت حقّ المواطنة كغيرها من بقية ألفاظ المعجم الفرنسي، ولاسيما بعد أن اعترف بها اعترافًا رسميّا قاموسُ أكاديمية اللغة الفرنسية في طبعة 1762، الصادر عن أكبر مؤسسة رسمية منوطٍ بها رعايةُ لغة موليير والحفاظ على سلامتها ونقائها والتدقيق في هوية كل لفظ داخلٍ إليها، ومعروفة بمواقفها المتشدّدة إزاء الألفاظ الدخيلة التي لم تثبت جدارتَها واستمراريتها وأحقيتَها في الوجود، وبعد أن شهد لها وتواطأ على الاعتراف بها كلُّ القواميس الفرنسية الكبيرة الموثوقة الفصيحة الشهيرة من قبيل: لاروس، وروبير، وذخيرة اللغة الفرنسية، وغيرها؟.
هل يمكن لباحث لغوي أو أنتروبولوجي أن يجرؤ بعد هذا على إصدار حكم بحرمان تلك الكلمة من جنسيتها الفرنسية التي مر على اكتسابها قرون تلو قرون، وهو يعلم حق العلم أن للكلمات حقَّ المواطَنة مثلها مثل بقية الكائنات الحية الأخرى، حتى ولو لم يمض على وجودها في الوطن الذي احتضنها إلا بضعة عقود؟ وهل يمكن أن نصدّق أن هنالك من بين المُلمّين، ولو بقدر ضئيل من التكوين الثقافي الفرنسي، فأحرى أن يكون مدرّسًا لهذه اللغة، من يجهل اليوم هذه المعلومة البسيطة، ولا يعرف أن (salamalec) لفظ فرنسي من صميم اللغة الفرنسية، وإن كان أصلُه عربيّا؟ وما الضَّيْر في أن تكون في معجم الفرنسية أو غيرها من المعجمات، ألفاظ دخيلة من العربية وغيرها من لغات العالَم؟ وما هي اللغة الفرنسية إذا نحن جرّدناها من آلاف الكلمات الدخيلة الآتية إليها من كل لغات العالَم في القديم والحديث، وفي مقدمتها وعلى رأسها آلاف الألفاظ العربية التي اقترضَتها هذه اللغة عبر قرون عدة، واستفادت من وجودها فيها أيما استفادة، يوم كانت العربية لغةً علمية وثقافية وحضارية بامتياز، تتسابق الأمم المتطلِعة للتفتّح والنموّ والنهوض، إلى الاغتراف من بحرها العميق، والتقرُّب إلى جنابها المَهيب، وقد قارب عدد تلك الألفاظ أربعة آلاف كلمة، كما أحصيناها في كتابنا الموسم ب (العربيات المغتربات)؟ هل يستطيع الفرنسيون في عصرنا هذا أن يتجنّبوا استعمال كلمات تتردد على ألسنتهم عشراتٍ المرات في كل يوم من قبيل: Café, sucre, alcool, sirop, safran, coton, carafe, algèbre, chiffre, zéro, chimie, algorithme, bougie… والقائمة طويلة ….؟؟ ما ذنب (salamalec)، إذن، التي أرادوا عزلها وحدها وشَنقها دون بقية شقيقاتها المنحدرة معها من أب واحد وأم واحدة؟ إذا كان محرّمًا على أطفال المستوطنين من أصول عربية وإسلامية في فرنسا استعمال لفظ (salamalec)، فمن باب أولى وأحرى أن يتم حرمانهم، هم وكل أفراد المجتمع الفرنسي، من استعمال مئات الكلمات الأخرى الأكثر شهرة وتداولاً في كل مجالات الحياة الفرنسية، على نحو ما ذكرنا من الأمثلة.
هل نحن، أخيرا، أمام موجة من موجات التطرف السياسي الشعبي (ويقولون الشعبوي) اليميني الذي يجتاح العالَم الغربي في الفترة الأخيرة، وصلت إلى حد ممارسة نوع من التطهير أو التمييز اللغوي، بغرض تنقية الفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية، من بعض الألفاظ ذات الأصول العربية والحمولة الإسلامية، بعد أن قَضَت منها مأرَبَها الحضاري لقرون خلَتْ، حتى لا تبقى حملة كمال أتاتورك البئيسة يتيمة وفريدة من نوعها في التاريخ الحديث، حين عمَد في الربع الأول من القرن الماضي، إلى محاولةٍ لم يفلح فيها بشكل تام، لتطهير التركية من الألفاظ العربية ذات الحمولة الإسلامية، وهو بصدد التأسيس لمذهبه العَلماني الذي جرّ تركيا إلى ركن قَصِيّ منفصل عن حاضنتها الكبرى ومحيطها الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه ولا تستطيع العيش من دونه؟.
إذا كان الأمر كذلك، فلننتظر يومًا يأتي فيه تعنيف أطفال فرنسيّين وأوروبيّين وتهديدهم بالطرد بسبب استعمالهم كلمات أخرى أصبحت بدورها من صميم المعجم الفرنسي من قبيل: Islam, islamisation, islamologie, mosquée, minaret, marabout… ونحو ذلك من الكلمات الكثيرة الحاضرة بقوة في الحياة الأوروبية اليومية. فالأيام أصبحت حبلى بالعجائب والغرائب.