تدهورُ أسواق الكتُب في المغرب وبقية الدول العربية، أصبح ظاهرة تشغل بال كل مهموم بشؤون الثقافة في بلادنا ولاسيما حين يقارن حالها بين الحاضر والماضي القريب أو البعيد متسائلاً: هل تقدّمنا أم تأخرنا؟ وقد لفَتَ نظري أن الحسن بن الوزان الفاسي المعروف، بليون الإفريقي، حين تحدث عن مدينة فاس في بداية القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي، وسُكانُها آنذاك لا يزيدون عن بضعة آلاف، قال في كتابه (وصف إفريقيا) إنه كان يوجد قربَ جامع القرويّين سوقٌ للكتب تعرف بالكُتبيّين، بها ما لا يقل عن ثلاثين دكانًا لبيع الكتب، أي حوالي ثلاثين مكتبة تجارية.
وقد أدركتُ شخصيّا أيام الطلب وإلى غاية السبعينيات، بقايا هذه الدكاكين في المكان الذي حدّده ابن الوزان. وإلى جانبها نشأت في وقت متأخّر، سوق أخرى بحي الطالعة الصغرى، كانت بها عدة مكتبات شهيرة يقصدها طلاب العلم من كل فج عميق. إضافة إلى بعض المكتبات الحديثة التي كانت قد فتحت أبوابها بالمدينة الجديدة (دار الدبيبغ) بعد الاستقلال، منها مكتبة المرحوم محمد الإدريسي الإعلامي المشهور بإذاعة فاس، التي سرعان ما اختفت لقلة الإقبال وكساد السوق.
أين حال فاس القديمة والحديثة من حالها في الوقت الحاضر وهي ثاني أكبر المدن من حيث كثافة السكّان بعد الدار البيضاء (قرابة مليون ونصف نسمة)؟ فمن يزور اليوم هذه المدينة العريقة، التي عُرفت عبر عصور التاريخ بعاصمة المغرب الثقافية، سيفاجأ بأن فيها من عِطر الماضي وعبَق التاريخ، كل شيء، إلا رائحة الكتب والمكتبات العلمية التي كانت تملأ جَنباتها وتفيض بها أسواقُها ودروبُها، فهي شحيحة نادرة لا تكاد تُلمَح، ولا تكاد تُشَمّ. ولا أتحدث عن الورّاقات أو دكاكين الأدوات والدفاتر والكُتيّبات المدرسية، ولا عن المكتبات الخاصة التي لا يُعرف مصير الكثير منها.
وشأن هذه المدينة التاريخية ذات الحضارات المتعاقبة، لا يختلف عن مثيلاتها في بقية ربوع البلاد، بما فيها مدينة الرباط ʺالعاصمة الثقافيةʺ للمملكة، فلن تجد فيها من بقايا مكتباتها التي كانت تزدهي بها أحياؤها ويفتخر بها طلابُها وعلماؤُها، إلا دكاكين ومكتبات قليلة متناثرة هنا وهناك، لا يكاد يصل عددها الإجمالي إلى عدد أصابع اليد، أو إلى ما دون ذلك. تلك حال الكِتاب والكُتبيّين وأسواق الكتب في عصر التبجّح بالعلم والعلماء والثقافة والمثقفين. أما حال القراءة، فلا تسأل عنها إلا من ابتُلي بداء الكتابة، حتى وإن تباهينا بخدمة الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والكتاب الإلكتروني.
لماذا نكتب، إذن؟ ولمَن نكتب؟ ومن يساعد أو يشجّع على الكتابة؟ أسئلة تقليدية لا يفتأ الكاتب يردّدها بينه وبين نفسه مرةً تلو مرة، ويتجرّع مرارتَها حينًا بعد حين. ومع ذلك، فالكاتب الجادّ، مهما تجرَّع من كؤوس المَرارات، لا يكفّ عن الكتابة، لأنه يدرك أن الكتابة أمانة، وأنه مخلوق لحَملِ هذه الأمانة، وأن رسالته في الحياة هي أن يكتب ثم يكتب، حتى ولو مات بسُمّ الكتابة. ألم يَمت سُقراط بسُم ما كتَب؟