قدّم إريك زمّور المرشح الفاشل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية السابقة، نفسَه لجمهور منتخِبيه في حوار له مع قناة تلفزية أمازيغية، على أنه بربريّ (berbère) يهودي الديانة، فرنسي الجنسية، مناهضٌ للهجرة والمهاجرين عمومًا وللكتلة العربية الإسلامية على الأخص، ولاسيما تلك المقيمة في فرنسا المستعصِيَة على الاندماج والانصهار الكليّ في ʺ القِيَم ʺ الفرنسية لغةً وثقافةً وحضارةً وسلوكًا، رافضٌ لتعليم العربية في المدارس الفرنسية، ولتشبث مسلمي الجمهورية بثقافتهم الأصلية وديانتهم وتقاليدهم الإسلامية.
ولا يكتفي بذلك بل يصرِّح بلا مُوارَبة بأن الاستعمار الفرنسي للشمال الإفريقي كان صاحب الفضل في تحريرʺ البربرʺ (يتجنب دائمًا استعمال لفظ إيمازيغن أو أمازيغ)، من الاستعمار العربي الأكبر والأطول في التاريخ الذي دام أربعة عشر قرناً وما زال مستمرا إلى اليوم. يعتبر إريك زمّور بحق، نموذجًا حيّا للسياسي الشعبوي الصِّدامي الذي يترسَّب في أعماق شخصيته المعقَّدة كلُّ الحقد الأسود الموروث عبر الأجيال، على الإسلام والمسلمين ولغتهم الحضارية وثقافتهم المشترَكة، وتتلاقَى كلُّ الأبعاد المختلفة للتطرّف البالغ الحدّة والقائم على: التعصب العرقي، والكراهية الدينية، والانغلاق الثقافي واللغوي، والإيديولوجية الفرنكفونية الرافضة لوجود أي عالَم غير عالَمها المُظلم الكئيب.
وهذا ما يستخلصه كل متابع لخطابات الرجل المُشاكِس وحواراته المتشنِّجة، ولاسيما أثناء حملته الانتخابية، التي نفَثَ فيها سُمومَ عداوته المستحكِمة ضد كل ما هو عربي ومسلم، متوعّداً كل المهاجرين، والمسلمين على وجه الخصوص، وكل الموجودين منهم على أرض فرنسا بالطرد والملاحقة والحرمان من كل الحقوق والحريات بما فيها التسمية بأسماء إسلامية، وتناول الأكل الحلال، والتزيّي بزي الآباء والأجداد، رغم أنه شخصيّا ينتمي لأسرة يهودية جزائرية مهاجرة حديثا إلى فرنسا، لم يمض على لجوئها لهذه البلاد أكثر من سبعين عاما، وهو نفسه لم يمض على حياته فيها أكثر من أربعة وستين عاما (ولد سنة 1958م). لقد عاش آباؤه وأجداده في كنَف المسلمين لعدة قرون، وأغلبهم كانوا من قبلُ يعيشون في كنَف الحضارة الإسلامية بالأندلس إلى أن لاحقتهم محاكم التفتيش الكَنَسِيّة وألقى بهم الإسبانُ وراء البحر، فلم يجدوا ملجأ وحمايةً سوى الحِمَى الإسلامي، ولم يثبت في التاريخ أن الحكم الإسلامي في المشرق أو المغرب قد فرض على أقلياته غير الإسلامية (من يهود ونصارى وصابئة) اندماجًا قسريّا وكلّيّا في المجتمع المسلِم، أو ألزم أحدًا منهم بالتخلّي عن دينه وعقيدته وثقافته ولغته وعاداته. بل عاشت كل طوائف أهل الذمة متمتّعة بشبه استقلال ذاتي داخل دولته. ولو كانت الدولة الإسلامية قد فرضت شيئا من هذا لما ظل للطائفة اليهودية أو غيرها من أثَر أو بقية.
ومع ذلك يتنكَّر زمّور لكل هذا التاريخ الطويل من التسامح الإسلامي، ولم يعلق بذهنه شيء من الماضي سوى ما عاشه مع أسرته بفرنسا خلال فترة لا تزيد مدتها عن عقود قليلة، ولم يعد يحمل في قلبه سوى الكراهية التي لا حدود لها للحضارة الإسلامية ولكل ما يمتّ للإٍسلام بصلة.وفي حوار ثانٍ متشنّج جمعَه مع شخصية فرنسية أخرى عميقة التفكير والوعي والانفتاح والتسامح: شخصية جاك لانغ رئيس المعهد العربي بفرنسا الذي أصدر سنة 2020 كتابا بعنوان: اللغة العربية كنزُ فرنسي:La langue Arabe trésor de France، والوزير السابق في التعليم والثقافة، نجد الرجل المُشاكس يهاجم اللغة العربية هجومًا شرِسًا قلَّ نظيرُه بين الفرنسيّين والغربيّين عمومًا، ويصرّح بكل صفاقة بمعارضته الشديدة لإدراج تعليمها في المدارس الفرنسية رغم وجود ملايين المسلمين المطالبين بحق تعليم العربية لأبنائهم، كما يشرح ذلك جاك لانغ. فهي، في نظرته السوداوية الحاقدة، لغة لا أهمية لها ولا فائدة سوى كونها لغة القرآن الذي يبشّر بدين يعادي، كما يقول، العقل والفلسفة والعلم، ويحثّ على التطرّف والإرهاب ( لغة الله أكبر ، كما يسميها). وإدراجها في المنظومة التعليمية الفرنسية من شأنه أن يؤدي إلى شقّ صفّ المجتمع الفرنسي، وتقوية التيار الإخواني، ومزاحمة اللغة الفرنسية داخل فرنسا، ويحد من سيطرتها…. إلى آخر ما هنالك من الترّهات التي يرددها عادةً أعداءُ العربية على سجيّتهم في فرنسا والبلاد الدائرة في فلَكها.
في هذا الحوار يبدو جاك لانغ مثالَ المثقف المتبصّر المدافع عن اللغة والثقافة العربيتين والحضارة الإسلامية، من باب الدفاع عن تلاقح الثقافات والحضارات واللغات، في نزاهة وموضوعية، وعن معرفة ودراسة وتفكير، لا عن عصبية وحمِية، قد لا يُحسن الدفاع عنها كثير من المسلمين، ومثالَ السياسي الواقعي الذي ينظر إلى العلاقات التاريخية التي ربطت بين فرنسا وبلاد المسلمين قديما وحديثا، وإلى أبناء الجالية الإٍسلامية المعدودة بالملايين، وما ينتج عن حرمانهم من لغة حضارتهم وثقافتهم الأصلية من أضرار نفسية واجتماعية وثقافية تعود على مستقبل فرنسا نفسها، وإلى الفوائد الأخرى التي يمكن لهذه الدولة وشعبها أن تجنيهما من إدخال العربية إلى المنظومة التعليمية للبلاد، على غرار ما يفعله المغرب وغيره من البلدان المغاربية الأخرى مع الفرنسية.
ووراء ذلك فوائد لا حصر لها ماديا ومعنويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا.في مقابل ذلك، تمثّل شخصيةُ إريك زمّور نموذجًا صارخًا لرجل السياسة الشعبوي الذي يصدر عن نظرة سطحية صِدامية عِرقية منغلقة، وأحكام إيديلوجية راسخة في ذهنه مسبّقا، ويعمل، عن معرفة أو جهل، على تنمية غريزة الحقد الموروث عن الماضي الدفين بين الإسلام والمسيحية الذي يعود إلى عهد الحروب الصليبية، واستغلال العاطفة الشوفينية العنصرية، للوصول إلى الحكم.
هذان نموذجان متعارضان من نماذج الطبقة السياسية الفرنسية المعاصرة والمتصارعة داخل التراب الفرنسي نفسه: نموذج ينظر إلى ما يمكن أن تُبنى عليه العلاقات الطبيعية والودّية والمتعدّدة الأبعاد بين ضفتي المتوسط، وتنشئة الأجيال على روح التسامح والتعاون، وآخر لا يرى أمامه سوى صورة الكرسي الذي يعمل بكل الوسائل المشروعة والهدّامة للوصول إليه مهما كلَّف الأمر، ولو على جماجم الآدميّين وصدام الطوائف، وحروب الإثنيات والأقليات والحضارات والثقافات، ولو لم يستفد منه سوى زمرة قليلة من المتسلّطين المتعطّشين للحكم بأي ثمن، هؤلاء الذين عادةً ما يكونون وبالاً على شعوبهم وبلدانهم وعلى الإنسانية جمعاء.