يتبيّن مما ذكرناه من قبل، ومن أمثلة كثيرة لا فائدة من الإكثار منها في هذا المقام، أنه من الظلم القاسي والنفاق الشديد، أن نُكرِّم الاحتلال الغربي ذلك التكريم العظيم، ونُسبغ عليه صفة ʺاستعمارʺ ونحن نعلم بشاعةَ أفعاله وحجم جرائمه. فنحن بذلك كمن يُلبِس سيّافًا متوحِّشًا ما يزال جسدُه كلُّه يقطُر من سَفْك الدماء، حُلةً حريرية زبَرْجدية، وعِمامة ذهبية ناصعة، وتاجًا لؤلؤيّا فاخِرًا.
فهذه الصورة لا تختلف في شيء عن صورتنا ونحن ننزع عن جبين الاحتلال لافتتَه الحقيقية ونعوِّضها بلافتة ʺالاستعمارʺ. إن مَكرَ الكلمة لعظيم. لكن في جميع الأحوال تبقى هذه اللافِتة مجرد قطعة من الورَق المُقَوَّى، واجهتُها البارزة تُحيل على الإعمار: إعمارِ أرض وإحيائها، وإصلاح أحوال الشعوب وتزويدها بكل المنافع الإنسانية المادية والمعنوية والحضارية، وواجهتها المُغَطّاةُ تُحيل على نهب خيرات الأرض ما تحتها وما فوقها، واستعباد أهلها وقتلهم وتشريدهم، واستِبلاد عقولهم واستِحمارهم وتدمير ثقافتهم ولغتهم وتخريب هويتهم. وقد زعم ــ زورًا ــ أحدُ كبار منظِّري الاستعمار الفرنسي، وهو أرثور جيرو في مدخل كتابه: مبادئ الاستعمار والتشريع الاستعماري، أن ʺالاستعمارʺ جاء لفائدة الأرض بخدمتها وإصلاحها، وخدمة أهلها بنقلهم مما كانوا عليه من التخلف والجهل والوحشية، إلى أنوار الحضارة الغربية المتقدمة ودمجهم فيها.
وتلك خُرافةٌ مألوفة يحكيها الذئبُ لفريسته قبل أن تستسلم للنوم، فينقضّ عليها؛ حكاية أصبحت الشعوب التي عانت من ويلات هذا ʺالاستعمارʺ تعرف غايتَها وحقيقتها المرّة. لذلك يقول مؤلف كتاب: جرائم فرنسا في الجزائر: «إن كلمة استعمار في حد ذاتها جريمة ضد الإنسانية». ومن أكبر جرائم الاستعمار أنه بنَى سياستَه على حكمةʺ فرّق تَسُدʺ المعروفة، التي بمقتضاها عمل منذ اللحظات الأولى لدخوله إلى المنطقة المغاربية على تحطيم التلاحُم القوي الذي بَناه الإسلام منذ مجيئه بين المُكوِّنين الأساسيّين لشعوب الشمال الإفريقي وهما العرب والأمازيغ، وسَخَّر كل الوسائل للفصل بينهما وضرب أحدهما بالآخر، على أساس عِرقي طائفي وإحياء النَّعَرات الجاهلية.
ومع الأسف ما تزال آثار هذه السياسة المدمِّرة تعمل عملها الرهيب لحد الآن. وأنا أستغرب كيف جهل كاتب ياسين ومَن على مذهبه هذه النقطة الجوهرية، أو كيف تجاهلوها على الأصح، وهم يَقرنون الإسلام بالاستعمار؛ ألم يعلموا أن الإسلام جاء لتوحيد الشعوب ورصَّها وتذويب الفروق بين عناصرها، وصَبِّها في سبيكة واحدة، والاستعمار جاء لتفكيك وحدتها وتمزيقها وضرب بعضها ببعض، واتخاذه الحلفاء من هؤلاء لضرب أولئك.
أليس هذا فرقًا جوهريًّا بين الإسلام والاستعمار؟ لكنها آفةُ من آفات الاستِحمار والاستبلاد. وأنا حين أستمع اليوم إلى قنوات الإعلام العربية وهي تتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي فتسمّي شُذّاذ الافاق وسُرَّاقَه الذين تجمَّعوا من أنحاء العالَم لانتزاع الأرض من سكانها الفلسطينيين، ʺمُستوطِنينʺ، وتسمي الأحياء التي يقيمونها على الأراضي المغصوبة قسرًا وقَهرًا ب «المستوطَنات»، هكذا بهذا الحياد اللغوي اللطيف الوديع، أدركُ إلى أي حد ابتلعَ الإعلامُ العربي الطّعمَ المسموم، والمفروض فيه أن يكون متيقِّظًا حَذِرًا من استعمال ألفاظ لا يعرف الهدف من إطلاقها وترويجها، وأن تسخير المَكْر اللغوي في الحروب أمر معروف لا ينبغي أن ينطلي على أحد.
وقد بالغ أرثور جيرو في تصوير الوجه الإنساني والحضاري للاستعمار لدرجة أنه جعل منه فنًّا من الفنون (art) كفنّ التربية، فهو يقوم بما تقوم به الأسرة من تربية أبنائها وتعليمهم، كما يقول، ويبرّر ما قد يُستعمل فيه من قسوة بكون تلك القسوة تشبه قسوة الأب على أولاده وذلك من مصلحتهم. ولكنه ما لبث أن عاد فقسَّم الاستعمار الأوروبي إلى أقسام: منها الاستعماري التجاري الذي كان يركّز على ما يجنيه من أرباح عن طريق التوسع في فتح الأسواق وترويج البضائع، والاستعمار الاستغلالي (استغلال الثروات الطبيعية والمعادن فضلاً عن الثروات البشرية)، والاستعمار الاستيطاني الذي كان يهدف إلى نشر العِرق الأوروبي وتكثير سواده والعمل على استقراره خارج الميتروبول، ولاسيما في المناطق ذات المناخ القريب من المناخ الأوروبي، والاستعمار الزراعي الذي كان يركّز على زراعة الأراضي الشاسعة وتكوين إقطاعيات كبرى واستجلاب العبيد من إفريقيا للخدمة فيها، والاستعمار العسكري بغاية فرض الهيمنة المطلقة وضمّ الأراضي المحتلة بالقوة، والاستعمار الذي سماه العِقابي أو الجَزائي pénale الذي كان الغرض منه التخلّص من المجرمين والأشرار ومعاقبتهم بإرسالهم للخدمة في البلاد المحتلة كما فعلت بريطانيا التي ضاقت سجونُها بهؤلاء المجرمين فنقلت أغلبهم إلى أستراليا وأطلقت يدهم في السكان الأصليّين لينقضّوا عليهم كالوحوش الضارية، حتى أبادوا منهم الآلاف.
ومن هنا كان على جيرو أن يضيف إلى هذه الأنواع والاقسام التي ذكرها، نوعًا آخر سماه المؤرخون بالاستعمار الاستئصالي كهذا الذي فعلته بريطانيا في أمريكا واستراليا، مما جعل واحدًا من الإنجليز المُنصفين ينعت العِرق الإنجليزي ب(العرق الاستئصالي) . كان على كاتب ياسين ومَن معه من الأنصار والأحلاف الذين يصفون الإسلام بالاحتلال ويُقارنونه به، أن يسألوا أنفسهم: أية مقارنة تصح بين ما فعله الإسلام بسكان القارات الثلاث التي دخلها، وما فعله الاستعمار الفرنسي بالمناطق التي احتلها، وبمنطقة الجزائر، على سبيل المثال لا الحصر، التي فقدت خلال 132سنة أكثر من خمسة ملايين و630 ألف نسمة (حسب بيان رسمي حديث للدولة الجزائرية)، بما فيهم مليون ونصف شهيد سقطوا خلال فترة حرب التحرير من 1954 و1962م، وبما فيهم 45 ألف قتيل سقطوا في معركة واحدة في 8 مايو 1945م، دون الحديث عن عدد الجرحى والمعطوبين والمعذَّبين والمسجونين؟.
ورغم ما قد يكون في هذه الأرقام من مبالغة، فإن الحقيقة التي شهد بها جميع المؤرخين هي أن تاريخ الاستعمار في الجزائر كان عبارة عن تاريخ للمجازر والمذابح وسفك الدماء والحقد والكراهية والعنصرية، وهذا العدد الكبير من الضحايا لا يدل إلا على شدة المقاومة التي أبداها أصحاب الأرض وانتهت بطرد الاحتلال وإخراجه مهزومًا مدحورًا. لكن طرد الإسلام الذي عُمِّر أكثر من أربعة عشر قرنًا، لم يطالب أحدٌ بطرده من المناطق التي انتشر فيها، إلا كمال أتاتورك وكاتب ياسين.