يعرف الناس الشاعر الأديب الكاتب المعروف بالطُّغرائي (ت 515هـ / 1121م) صاحب القصيدة الشهيرة الرائعة التي سارت بذكرها الركبان وحفظتها الأجيالُ بعد الأجيال، ومطلعها:
أَصالةُ الرأي صانَتْنِي عن الخَطَلِ
وحِلْيَةُ الفضل زانَتْني عنِ العَطَلِ
فيمَ الإقامةُ بالزَّوراءِ، لا سَكـَنِي
بهــا، ولا ناقـَـتي فيها ولا جَمَــلِي
ولكنهم لا يعرفون أن هذا الكاتب الأديب الذي تقلّد رئاسة ديوان الإنشاء لسلطان زمانه، كان من أشهر علماء الكيمياء في عصره أيضًا. ألف في هذا العلم كتبًا جليلة عديدة، تُرجِم بعضُها إلى اللغات الأوروبية، ومن أشهرها كتاب جامع الأسرار في الكيمياء، والرد على ابن سينا في الكيمياء، وتراكيب الأنوار في الإكسير، وسر الحكمة في شرح كتاب الرحمة لجابر بن حيان، ومفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة، وسواها من المؤلفات في هذا العلم الجليل الذي كان أجدادُنا يتعلّمونه ويعلِّمونه ويؤلفون فيه المؤلفات النفيسة باللغة العربية التي يدرسون بها أيضا علوم الدين والأدب والبلاغة والنحو والمنطق والطب والفلَك والنبات والصيدلة وغيرها.
ما قلناه عن الطغرائي نقوله عن كثير من ألمع علماء الأسلاف وأُدبائهم، وفي مقدمتهم الفيلسوف والطبيب أبو علي بن سينا الذي لا يعرفه الناس إلا طبيبا وفيلسوفًا وحكيمًا ومؤلفا لكتاب القانون في الطب وموسوعته العلمية الفلسفية المعروفة بكتاب الشفا، ولا يعرفون أدبه شعره ونثره وقصيدته المعروفة بقصيدة النفس التي مطلعها:
هَبَطتْ إليكَ منَ المَحلِّ الأرفَعِ
وَرقاءُ ذاتٌ تَعزُّزٍ وتَمنُّعِ
وكذلك الشاعر الصوفي عمر الخيام الذي لا يكاد يعرفه الناس إلا برباعياته التي غنَّت بعضَ مقاطعها السيدةُ أم كلثوم، ولا يعرفون عنه مثلاً أنه كان إلى جانب أدبه وشعره، من أكبر علماء الرياضيات والفلَك والفقه والتاريخ، وهو أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جَبْرية من الدرجة الثالثة.
ومن هؤلاء أيضا لسان الدين بن الخطيب الذي اشتهر عند الناس بالأدب والتاريخ والشعر، فهو صاحب الموشحة الطائرة الصيت:
جادَكَ الغيُث، إذا الغيثُ هَمىَ
يا زمانَ الوَصْلِ بالأندلسِ
ولا يعرفون أنه فوق ذلك طبيب ألّف في هذا العلم ثلاثة عشر عنوانًا من أشهرها كتاب: الوصول لحفظ الصحة في الفصول.
ولا أريد أن أزيد، فالقائمة طويلة جدًا بمثل هذا الصنف من علمائنا الذين استخدموا العربية في الجمع بين كل معارف عصرهم وعلومها وآدابها، فلم يكن هؤلاء الذين ذكرناهم استثناء وإنما هم مجرد مثال بسيط من أولئك الكثيرين في حضارتنا الإسلامية الذين ساعدَتهم وحدةُ اللغة على الجمع بين العلوم والآداب واللغة والفكر، وعلى تخطّي الحواجز المتوهَّمة الموضوعة بين مختلف الحقول والمعارف، كما هو شأنُنا اليوم في العالَم العربي.
حينما كانت العربية لغةً لجميع المعارف والعلوم، كان الدارس يستطيع بها أن يجول بحرية مطلقة ويصول في كل العلوم والآداب النظرية والتطبيقية، ويتنقَّل بين زَهَراتها ويمتصّ رحيقها كما تتنقّل الفراشات في سهولة ويُسر، دون أن يعوقه عائق، أو يحول دونه حائل. فالأديب والنحوي والبلاغي والمفسِّر والمحدِّث والجغرافي والمؤرِّخ والفيلسوف يمكن أن يقرأ كتب الطب والصيدلة والكيمياء والطبيعة والموسيقى والفلَك ويستفيد منها ويتفّوق فيها ويؤّلف وينبُغ، وتتكامل لديه المعارف وأدوات التفكير والبحث والنظر، ويتعمَّق وعيُه ونظرُه وتجربتُه، ويَغتني معجمُه، وتتنوَّع أساليبُه وتتسع آفاق تفكيره. وبهذا تطوّرت العربية في عصورها الذهبية ونَمَت وازدهرت. ولم تكن العربية قبل الحضارة الإسلامية لغةَ علم وكيمياء وفيزياء وفلسفة ونحوها من العلوم العقلية والتجريبية، وإنما حاجةُ هذه الحضارة إلى تلك العلوم والمعارف هو الذي اضطرّ اللغة إلى خوض غمار كل المعارف المستحدَثة على اختلافها، واقتحام عقَباتها من دون سابق إعداد وتهيئة في هذه المجالات على اختلافها. فلم يمض إلا وقتٌ قصير حتى استوعبت كل ذلك كما استوعبت من قبلُ كتابَ الله وعلومه وآدابَ العرب وتراثَها شعرًا ونثرًا.