كان قد أحدُ المفكرين قد نعت بعض ألوان التفسير للقرآن الكريم غير المنضبطة بشرائط المعرفة بـ”التفسير المتوحش”؛ وهو ما صرنا نشهده لدى الكثيرين اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. فكيف، يا أصدقائي، يتجرأ البعضُ لتفسير آية أو سورة أو مقطع من الذكر الحكيم وهو لا يملك أدنى أدوات المعرفة المتيحة لذلك؟؟؟؟ أين المعرفة العميقة بعلوم اللغة العربية؟؟؟ أين المعرفة بتاريخ الثقافة العربية وأحوال الجزيرة العربية إبان التنزيل؟؟ أين المعرفة بعلوم القرآن الكريم من مكي ومدني، ومحكم ومتشابه، وأسباب نزول،….إلخ؛ مما أجملت الإشارةَ إليه كتبٌ جامعة مثل “البرهان في علوم القرآن” للزركشي (تـ 794 هـ)، أو “الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي (تـ911هـ)؛ هذا فضلا عن جهل كامل بالأسئلة التي يطرحها التراث التفسيري الباذخ باتجاهاته المختلفة من تفسير بالمأثور أو تفسير لغوي أو بلاغي أو كلامي أو فلسفي أو إشاري…؛ وكذا تلك التي تطرحها المحاولات الجادة في العصر الحديث لتجديد التفسير، منهاجا ورؤية ورهانات؛ سواء مع المدرسة التفسيرية الإصلاحية مثل تفسير “المنار” لمحمد رشيد رضا، أو تفسير “التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور؛ أو الاتجاه “العلمي الكوني” في التفسير مثل طنطاوي جوهري في كتابه “جواهر في تفسير القرآن الكريم”، أو الاتجاه البياني مع مدرسة أمين الخولي، أو الاتجاه الحداثي في قراءة القرآن الكريم كما هو الشأن مع محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور ومحمد عابد الجابري وأبو القاسم حاج حمد…على اختلافٍ في المقاربة والمنهاج والخلاصات…إلخ. إن الأمر المحمود في كل هذه المحاولات والاتجاهات عدم تنكرها للمعرفة، ومحاورتها، تبنيا أو تنخيلا أو نقدا، للتراث التفسيري علوما ومضامينَ وأدواتٍ وإشكالاتٍ. فيما “التفسير المتوحش” الذي نصادفه على المواقع اليوم، يتصدى له أناس لا يملكون الأدوات الأولى لقراءة هذه الجهود العلمية قديمها وحديثها، بله الاقتراب المباشر من النص….ومع ذلك ترى الزعم بالاقتراب التجديدي من النص القرآني الخالد والإتيان بما لم تأت به الأوائل. أيها السادة، هذا النص الإلاهي، الذي قامت عليه واحدة من أعظم حضارات الإنسانية، لا يُعطي نفسَه لغير الصادقين في البحث والمجدين في طلب العلم؛ هذا الأمر جدٌّ في جد وليس بالهزل. إنه أمر لا يُقاسُ بـ “بوز” ولا بعدد “الإعجابات” ولا بعدد “المشاهدات”…….؛ فليشتغل كلُّ عالم أو باحث بعلمِه، ولينصرف كل عامل إلى تخصصه، ومن أراد أن يخوض غمار التدبر المعرفي في القرآن الكريم، ليفترش البساط، وليجلس إلى حلقات ودروس أهل العلم المطلوب، ولينذر عمره للمعرفة، و وليسامر الكتب المتخصصة، وليسأل أهل الذكر ، وليتق الله في نفسه وفي غيره، فالعلم يجب أن تُعطيَه كلَّكَ كي يُعطيكَ بعْضَه. ليس هذا احتكارا للقول في التفسير، ولا إغلاقا لباب الفهم والاجتهاد، ولا دعوة للتحجير على العقول؛ وإنما هو حماية لحمى العلم والمعرفة من التتفيه والتسفيه والتخليط والتخبيط وأشكال التطاول والتجهيل….حماية للقرآن الخالد من “التفسير المتوحش”، والمتنكّر باسم “التجديد والتحديث والتغيير والعلمية….”؛ فيما هي مجرد دعاوى تصدر عمن لم يُخْلِص في طلب علم التفسير ومعرفته،ولا تبَلَّلَ بقطرات من يَمِّ حبِّهما، فبالأحرى أن يتجاوزهما، يقول عمر بن الفارض:
رَضُوا بالأماني وابتلُوا بحظُوظِهم — وخاضُوا بحارَ الحبِّ فما ابتلُّوا.