‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د محمد الشرقاوي: عندما تعمى الأبصار بتعصب القومية الجامحة!

أصبح من المألوف أن يتراجع الدور الريادي الذي كان لمؤسسات المجتمع المدني في دول المغارب قبل عقدين. وأصبحت بعض الوجوه الحزبية وبعض الأسماء الأكاديمية ميّالةً إلى التقرّب زلفى من صانعي القرار، دون مساءلة أو التزام بحقيقة دور المثقف في تنوير الطريق لتطور مجتمعي إيجابي.

لا أجد استثناءً في هذا الانحدار مغربيًا وجزائريًا وتونسيًا، مما ينذر بتجويف المجتمع المدني من دوره الطلائعي من الأحزاب والبرلمان إلى الجامعات والنقابات. وتثير قضية الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صلصال مزيدا من الشؤم في هذا الباب بسبب مغالطات من تجندوا في صف الحكومة الجزائرية إلى حدّ الانحراف عن المنطق الذي تقوم عليه فلسفة الدولة الحديثة، خاصة في مراعاة حرية التعبير والحق في الاختلاف في فهم التاريخ بعيدا عن الإملاءات الرسمية.

أستغرب من تكابر السيد محمد ذويبي الأمين العام لحركة النهضة الذي يلوي عنق الحقيقة، ويعتدّ بأن “ما صدر عن صنصال ليس تعبيرا عن حرية الرأي كما تحاول فرنسا الترويج له، بل هو جزء من مسار طويل من العمل ضد المصالح الوطنية للجزائر، سواء المعنوية أو المادية، وتشويه تاريخها المجيد ونضال شعبها البطولي”، حسب بيان الحركة.

يتغلب موقف الانفعال على رزانة الحكمة أيضا داخل مجلس الأمة الجزائرية إزاء ما اعتبره “انسياق بعض أعضاء البرلمان الأوروبي خلف لوبيات نيوكولونيالية مستنسخة عن الحقبة الاستعمارية، وسمحوا لأنفسهم مرة أخرى بالخوض في مواضيع تتعلق بالحريات داخل الجزائر.” وأضاف البيان الذي أصدره رئيس المجلس صالح فوجيل أنهم “سمحوا لأنفسهم – كرّة أخرى – بكلّ وقاحة وسخافة وسذاجة ودناءة أن يتناولوا ويتداولوا بشأن الحريات وحرية التعبير في الجزائر وبشأن قضية داخلية لدولة سيّدة.”

ذهبت أصوات أخرى بعيدا إلى توظيف نظرية المؤامرة بالتلويح بأن السيد صلصال “كان ينقل أخباراً ومعلومات للسفير الفرنسي بالجزائر”، دون أي تأكيد رسمي إلى اليوم. والمفارقة أن الأجهزة الفرنسية لا تحتاج لكاتب ذي صوت جهوري أن يهمس لها بالأسرار العظمى في الدولة المتشبعة بالنَفَس الأمني والعسكري، اللهم إذا كان بعض المسؤولين في الدولة هم من يحفظون الودّ مع الإليزيه.

ثمة معضلة مزرية في التفكير الجمعي في الجزائر العاصمة عندما يتطابق ويتطرف في دمغ كاتب حر بدمغة الشيطنة والتخوين. وقد ذكر مصدر قضائي جزائري لصحيفة لوموند أن السيد صلصال، البالغ من العمر خمسة وسبعين عاما، يواجه تهمة “تقويض سلامة التراب الجزائري” التي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، أو الإبقاء عليه سجيناً مدى الحياة على الأقل.

في المقابل، يتسع نطاق المطالبة الدولية للسلطات الجزائرية بإعادة النظر في قرار محاكمته. وتضامنت عدة شخصيات فازت بجائزة نوبل للآداب، ومنهم آنّي إرنو وجان ماري لو كليزيو وأورهان باموق ووول سوينكا، فضلا عن عدد من الكتاب من بينهم سلمان رشدي وروبرتو سافيانو في المقال الذي نشرته مجلة Le Point بمبادرة من الكاتب الجزائري كمال داود الفائز بجائزة غونكور هذا العام، في القول إنها تطالب بـ”الإفراج الفوري عن بوعلام صنصال وجميع الكتاب المسجونين بسبب أفكارهم.”

لم تعد نظرية “المؤامرة الخارجية”، ولا خدمة “أجندات العمالة والتخوين، ولا النيل من “هبة الدولة”، تُهَمًا تقنع الرأي العام الجزائري خصوصا والمغاربي عموما. وكلّما تشنجت أعصاب المسؤولين ومن يدور في فلكهم من أصوات ترديد الصدى في المجتمع المدني، يزداد مؤشر الضحالة السياسية وتقويض الأمل في الحد الأدنى من الحِكامة والفضيلة السياسية. وإذا كان رأي أي كاتب في الاعتداد بوقائع التاريخ الإقليمي الحديث يهدّد أمن دولة بأكملها، فهو تشنّج وانفعال وضرب بئيس من ضروب قومية عمياء ونخبة سياسية طائشة!

‏مقالات ذات صلة

Back to top button