أرغمت جائحة فيروس كورونا المستجد المشتغلين بالفلسفة والعلوم الإنسانية على التفكير أو إعادة التفكير في العديد من الظواهر، من قبيل مفهومي المرض والصحة، والسياسات العمومية ، والاقتصاد النيوليبرالي، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، والرعاية الاجتماعية ومستقبل التربية، والعمل، والأيديولوجيا التقنية، وأشكال التضامن، والبيئة وتغيراتها، والتقنية ومخاطرها، والأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة..أي في المصير الإنساني عمومًا. طبعا لا تخلو مقاربة موضوع المرض أو الوباء من صعوبات منهجية ومعرفية، من حيث ان النقاش ينحو في هذا السياق إلى وضع وقائع”علمية”مقابل تمثلات ذاتية ترتكز في نفس الآن على الذاكرة الجماعية لوقائع وبائية تاريخية، وعلى بعض معطيات الثقافة العلمية. ألا يذكرنا وباء كوفيد19 أننا نشكل جسما اجتماعيا مترابطا ؟ ألا يسائل مجال العدوى ( الهواء المشترك) تمثلنا للمجتمع باعتباره تجاورا لأجسام مستقلة ومنفصلة ؟ واضح أن هذه الجائحة تطرح نفس الإشكالية التي يثيرها المناخ حين يذكرنا بأننا جميع في الهم سواء، وأننا لن ننعتق الا سويا، وبالتالي فإن الرغبة في البقاء على قد الحياة لا بد أن توقظ فينا شكلا ابتدائيا للوعي المواطن . الفيلسوف البلجيكي ميشيل دوبيو المختص في الأخلاقيات البيوطبية رمى في ساحة هذا النقاش بفرضية في منتهى الجرأة حين تساءل إن لم يكن هذا الوباء بصدد تفكيك “معيار رقمي” كوني ما فتئ يرسخ عوالمه الافتراضية، ويجعلنا مع التطور المتسارع للتكنولوجيات الرقمية نغفل عن حقيقة أن العالم هو أصلا ملموس واقعي وعنيد، وهاهو الوباء اليوم يعيد وضع الطبيعة في قلب الرهان، ويذكرنا أننا نحن “العقول المغرورة” يمكننا ان نموت بغباء أيضا بفعل الطبيعة . أما أستاذة الفلسفة الأخلاقية بجامعة لافال الكندية ماري هيلين باريزو فإنها تعتقد أن اللجوء إلى التحول الرقمي في ظل الأزمة الوبائية كانت له انعكاسات ملموسة على قطاعات التعليم والشغل والإنتاج الثقافي وعلى الممارسة الديمقراطية نفسها، حيث تُجهز الحلول التقنية على العلاقات الإنسانية، وتنزع عنها طابعها الإنساني، معمقة أشكال اللامساواة والإقصاء الاجتماعي. والحال أنه بفضل الوباء وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية ، أصبح جميع الناس فلاسفة ، ومثلما تم استدعاء ” العلاج البطيء” ظهرت الحاجة الى الفلسفة، ليس كتأمل ميتافيزيقي بل كما مارسها في الأصل قدماء الإغريق ، كعلاج للروح. فبقدر ما تساعدنا الفلسفة على تفكيك الأسئلة الأخلاقية الشائكة التي يثيرها الوباء، بقدر ما تفيدنا في الإجابة على مآزق أكثر ذاتية واستعجالية ، كيف نطيق ما لا يطاق ؟ كيف نجد اليقين في عالم لا يقيني؟ طبعا الفلسفة لاتمنحنا أجوبة جاهزة ، لكنها تعيد صياغة أسئلتنا و تعدل زاوية نظرنا، إنها مهارة تفكير مفيدة في السراء والضراء ، وليس غريبا أن يكون كبار الفلاسفة عبر التاريخ بنوا أنساقهم الفكرية الأكثر استدامة في زمن الجوائح والاضطرابات الاجتماعية والتحولات العنيفة.