“دير النية و بات مع الحية“
كلمة النية عادت إلى القاموس المعاملاتي والاجتماعي المغربي على لسان مدرب الأسود، عادت محينة المفهوم، ومحيلة على منظومة من القيم و الثقافة التي عاش بها المغرب لأجيال عديدة قبل أن تتأسس على أنقاضها قيم غرر بها الاستيلاب الثقافي وعولمة الثقافة والتقنية ..
ولأن الكلمة انبجست من الرياضة هذه المرة ومن لقاء احتفالي جمع العالم بأسره، فإنها ظهرت كطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد، لقد اتخذت في نهاية الأمر صورة صحوة ضمير جمعي، مما يقتضي اركيولوجيا ثقافية وسيميائية للبحث في دلالة الكلمة، وتأصيلها في الثقافة والتراث المغربي، والنظر في سبب غيابها عن الأذهان هذه السنين الأخيرة لصالح عبارت جديدة مصبوغة بالحداثة والوهم ..
وفي هذا السياق نلاحظ كيف تمحورت الثقافة المغربية في الماضي على بعض الكلمات التي كانت أساس المعاملات الاجتماعية الجميلة التي كانت تؤرخ لعلاقات التضامن والدم والتعاون والتماسك الاجتماعي مثل كلمة النية، التي خلدها المثل الشعبي المغربي بالقول الزواج بالنية و الحرث بالنية، وكذلك لفظ الكلمة بتسكين اللام التي كان لها دور أساسي في التعاقد الاجتماعي ..الرجل هو الكلمة والتي كانت تنوب عن العقد المكتوب الذي ينعقد بمجرد إعطاء الكلمة في بيع و شراء و مصاهرة، قبل أن تتغير الأمور رأسا على عقب في المعاملات بغلبة النكوص عن العهود، تنامي عدم الثقة بتراجع الكلمة والنية، حتى صار صاحب النية منعوتا بالغفلة، وصاحب الكلمة لا محل له من الإعراب .
من خلال السرد كتوثيق غير مباشر للعلاقات الاجتماعية، والأمثال الشعبية باعتبارها متحفا لحكمة اللغة اليومية تجذر مفهوم النية ونقاء السريرة في عمق التراث المغربي، وأصبح هذا المفهوم محور النجاح والفلاح في كثير من الأمور الأساسية في حياة الفرد والجماعة ، ولعل أهمها في حياة المجتمع الفلاحي وغيره هو الحرث ـ العمل ـ والزواج ..
ساد الاحتفاء بالنية و ما تحمله من صدق ووفاء في أمثالنا الشعبية المغربية ، إلا أن مفهوم النية ليس بسيطا من حيث التصور ، فهو مفهوم عميق قد يتجاوز القصد إلى السلوك ، و الجوهر إلى المظهر ، و يتجاوز العمل إلى الجزاء المستحق ، فالعمل بالنية دائما فيه ربح ..
لكن العمل بالنية ليس بمقدور الجميع ، فهو يرتبط بحسن الظن بالناس و التجاوز عن أخطائهم هو ما لا يستطيعه الكثيرون الذين يحاولون اعتماد حساب كل شيئ بالمنطق و السبب و النتيجة ..والنية أصبحت عملة نادرة ، و ذات معنى سلبي عند الكثيرين مما تدل عليه من سذاجة …غير نية ..
إن النية و ما تقتضيه من فهم خاص ليس متيسرا في كثير من الأحيان ، لأن المصلحة الخاصة تفرق الناس في الأحوال العادية ، بحيث من الصعب أن يلتقوا و يتفقوا على مصلحة مشتركة واحدة مما يجعل النوايا تختلف ، و صفاء السريرة شحيحا لتنازع المصالح ، و سيادة النفعية و البراغماتية و الأنانية ، و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ….
و كما يقول البعض فإن رابط النية هو المنبع الذي تندفع منه المفاهيم والمرادفات الأخلاقية بين الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، وبينهما كم من المفاهيم مثل الصدق والكذب، الكرم والبخل، الحب والكراهية، الحياء والوقاحة، التضحية والخيانة، الحصافة والحماقة…
و قد خلد السرد المغربي الأصيل إلى جانب الأمثال الشعبية أهمية النية في العلاقات الاجتماعية فصاحب النية دائما يفوز في النهاية ، فقصة المثل دير النية و بات مع الحية توحي بغباء منفذه ، لكن تتفتق الحكاية فيه عن أمر عجيب و غير منتظر ، بحيث يمكن لصاحب النية المخلص و الذي لا علم له بالشر الذي يضمره الغير له ، أن ينجو بنفسه في حين يقع العالم به و المهيئ له في شر عمله و في مكره الخاص ..
حكاية دير النية و بات مع الحية تدور حول امرأة كادت لأخرى ، و أرادت أن تتخلص منها بحيث وضعت أفعى في غرفتها و أحكمت إقفال بابها طول الليل و انصرفت إلى حالها،و في الصباح عادت لكي تتأكد من موت غريمتها ، فما أن فتحت الباب حتى لذعتها الأفعى و عجلت بمصرعها في الحال ، و بالتالي يكون جزاؤها من جنس عملها ، و تكون النية السيئة سببا في الهلاك..
إن المتشبع بالفكر المنطقي سيستحضر الخطر الحتمي لفعل ينبغي اجتنابه، بينما يفكر صاحب النية في هامش الإفلات من الخطر و الخلاص منه ، فيفسح أمامه باب الأمل و هو ضروري للحياة فلا يعرف قلبه اليأس ، و حتى إذا سلمنا بقدرة الإنسان المطلقة على تجنب الأخطار بعدم إلقاء نفسه إلى التهلكة ، فانه في بعض الأحيان يجد الإنسان متجنبا خطرا لم يكن ليتجنبه لولا تصرفه بحسن نية ..
إن النية تقود العمل و توجهه و تطهره و تجعله متخلصا من الشره و الطمع و الانتهازية و النفعية و الوصولية ، و إذا كان لا بد لكل عمل من هدف و بغية ، فليكن منفعة مقتسمة رابح رابح دون أنانية ، و إذا كان الربح مشروعا فليكن دون غبن أو إكراه او ثقافة وجبة أو احتكار ، فالنية ابلغ من العمل ، فلا فائدة ترجى من عمل وراءه سوء قصد ..
و نجد في قصة أخرى ، من تراثنا الشعبي الذي جعل فعل السرد يرتبط بالتعبير و العبرة و معرفة جوهر الحياة ،و جعل قصص الأولين عبرة للآخرين و اقتداء لتلافي نفس الأخطاء.
تقول حكايتنا : كانت النية مسافرة مع قلة النية سفرا طويلا ، فلما حل الظلام و كانتا قد تعبتا من السير ، قالت النية لقلة النية :
ـ الحال ظلام نشوفو شي مكان نتسراحو فيه …
قالت قلة النية :
ـ نعسي انت حدا الشانطي ـ الطريق ـ راه المكان جيد و مضاء من طرف مستعملي الطريق ، و هو مؤمن جيدا ، و أنا سأنام في الداخل، و هو كما تعلمين مظلم و كاين الحشرات ..
و كانت قلة النية في الحقيقة تريد أن تتخلص من النية بجعلها تتعرض لحادث ، و فعلا نامت النية قرب الطريق و نامت قلة النية بعيدا في الداخل ، فحدث أن مرت حافلة بسرعة كبيرة فلما رأى سائقها النية قرب الطريق انحرف عنها حتى لا يصيبها، فأصاب قلة النية و عجل بمقتلها ..
و في حكاية أخرى تعرض بدورها للنية و قلة النية ، تحكي أنه كان هناك سقاء يبيع الماء للناس في الأسواق ،وكان قد أحبه كل الناس لحسن خلقه و براعته في رواية القصص و الأساطير .
ذات يوم سمع الحاكم بهذا السقاء ، فقال لوزيره :
ـ اذهب و أحضر هذا السقاء .
بحث عنه الوزير حتى وجده ، وأحضره ، فقربه الحاكم منه ، و كلفه بسقاية ضيوفه، و سرد طرائفه و قصصه..
بدأ السقاء عمله الجديد، و دخل الديوان الذي كان مليئا بالضيوف وقام بتوزيع الماء عليهم، وكان حين ينتهي من عمله يجلس بجانب الحاكم ليحكي له الحكايات والطرائف المضحكة ، وفي نهاية اليوم يقبض مقابل عمله ويغادر إلى بيته .
بقي الحال على ما هو عليه إلا أن شعر الوزير بالغيرة و الحسد بسبب المكانة التي احتلها السقاء في قلب الحاكم .
وفي الغد حين كان السقاء عائدا إلى بيته تبعه الوزير وقال له :
ـ انتبه أيها السقاء ، إن الحاكم لم تعجبه رائحة فمك الكريهة، لذلك عليك أن تضع لثاما عندما تأتي إلى القصر.
و عندما حل الصباح وضع الساقي لثاما حول فمه، واتجه إلى عمله كعادته ، فاستغرب الحاكم من وضعه اللثام ، وسأل الوزير عن سبب ذلك ..
فقال الوزير :أمنني و أقول لك
قال الحاكم : لك كل الأمان ..
قال الوزير : إنه يقول أنه يشتكي من رائحة فمك الكريهة ..
مباشرة قرر الحاكم عقاب السقاء ، و استدعى الجلاد وقال له :
ـ من رأيته يخرج من باب القصر حاملا باقة من الورد فاقطع رأسه.
وحضر الساقي كعادته في الصباح وقام بتوزيع الماء ، وحين حانت لحظة ذهابه أعطاه الحاكم باقة ورد جميلة هدية له..
فالتقاه الوزير و طلب منه أن يعطيها إياه لأنه هو من يستحقها ، فسلمها له و انصرف راضيا ..
و لما خرج الوزير من باب القصر حاملا باقة الورد ، رآه الجلاد فقطع رأسه في الحال . وفي الغد عاد السقاء إلى عمله واضعا اللثام ..
فاستغرب الحاكم لرؤيته حيا يرزق ، و سأله عن ما جرى و كان ، فاخبره بالحقيقة ، فقال الحاكم متعجبا : فعلا إن النية و قلة النية لا تلتقيان ..
و يمكن استلهام العبرة من هذه السرود و الأمثال الشعبية التي تدعو إلى استعمال النية كما يلي ..
<<حين تكون نقياً من الداخل، يمنحك الله نوراً من حيث لا تعلم،و يحبك الناس من حيث لا تعلم،و تأتيك مطالبك من حيث لا تعلم،صاحب النية الطيبة هو من يتمنى الخير للجميع دون استثناء ،فسعادة الآخرين لن تؤخذ من سعادتك ، وغِناهم لن ينقص من رزقك ،وصحتهم لن تسلبك عافيتك ،واجتماعاتهم بأحبتهم لن يفقدك أحبابك .دائما كن الشخص الذي يمتلك النية الطيبة .
يقول المثل أيضا للي شفتيه رابح راه رابح من نيته و العكس صحيح ، لكن أمر النية ليس سهلا لوجود كثير من الأمور تمنع الانسان المعاصر من العمل بالنية و الإيمان بها ، خاصة من يظن أن كل شيء في الحياة يمكن أن يحسب و يعد ، بحيث لا مجال للخطأ و لا هامش لأي شيء آخر يمكن من المساعدة على تحقيق العمل و الوقوف إلى جواره ، لكننا نلاحظ ببعض التأمل أن هناك نسبية ملاحظة في عالم الإنسان تجعل إرادته و التحكم في مصيره محدودا بحدود قدرته البيولوجية و الثقافيه ..
إن السير نحو ثقافة شمولية معولمة و منمطة ، تقدس الحساب و التقنية و تصنم ثقافة البرمجة ، له أخطاره المستقبلية و قد يزيد العالم بؤسا و فردانية ، و قد يزيغ الإنسانية عن أهدافها النبيلة ….ربما يمكن أن تغني النية حياة الإنسان بالزيادة من تفاؤله و تحقيقه للعمل و الانجاز الجيد ..من يدري . ..و ربما ما أحوجنا من جديد الى النية في العمل ، و هو الدرس الأساسي الذي تعلمناه من أسود الأطلس خلال مشاركتهم في كاس العالم الذين جمعوا بين النية و العمل .. .وا دير النية عزيزي القارئ …و اقرا هاذ المقال فقد تجد فيه بعض الفائدة ..