في مفترق الطرق تقف الانثربولوجيا الجنائية وهي تراعي تداخل الإعلام مع الجريمة …محاولة فهم التأثيرات المتبادلة ونقط التجاذب..
ونحن نرى مشاهد بعض الجرائم المقترنة بالسلوك الاستعراضي الذي تقدمها بعض وسائل الإعلام في شكل أنواع من السبق الإعلامي ، للمجرمين و هم يطورون وساءل أداءهم الجرمي بكل هدوء و ثقة من خلال طريقة المشي الثقة التي يقدمون بها على أفعالهم و الأدوات المستعملة ..الطرق المستحدثة في الاعتداء ، مما لا يجد معه الباحث إلا قرع الجرس للتحذير من التأثيرات السلبية لهذه الصور، وللبحث في عمق تأثير هذه الممارسات الإعلامية على التنشئة الاجتماعية ..
و دورها المفترض في الترويج للفعل الجرمي ، خاصة مع الكثرة و التضخم الإعلامي الذي يتناول الحادثة الواحدة من منابر متعددة الذي قد يعطي ،في النهاية للجريمة الواحدة عدة صور متناقضة أو متجانسة حسب القدرة على العرض و التحليل و البراعة في تركيب الصور و المشاهد ،مما قد يوقع المشاهد في التباس واضح بين الرفض التام والاستنكار الشديد و بعض التعاطف و التبرير ..
وقد يؤدي ذلك إلى نوع من التضخيم ، فالحادثة واحدة لكن المقاربات الإعلامية متعددة مما قد يشكل في التحليل الأخير تطبيعا مع الجريمة باعتبارها شأنا يوميا عاديا ..فبالتكرار ونقص الوعي الإعلامي في بعض الحالات والاقتصار على البحث عن أكبر عدد من المعجبين والزوار ، واشتغال بعض المشاهدين بالبحث عن الفرجة الجماعية اليومية على مثل هذه الأحداث، قد ينتقل معه الحدث المفرد إلى ظاهرة ،مما قد يؤدي إلى تكرار الفعل الجرمي من خلال تقنيات التقليد و التعلم الذي تكلم عنها علم الإجرام ..
و نتساءل هل فهمت هذه المصادر الإعلامية تأثير هذه الصور على المجتمع، و خاصة على الأطفال و اليافعين ، و ما دور الخوف و الرعب في تعطيل الحياة النفسية للفرد و على تدني مشاعر الانتماء .. و الى أي حد يؤثر هذا الأمر على العلاقات الاجتماعية ، و يؤدي الى التحولات الذهنية من رفض الجريمة إلى التطبيع معها و اعتبارها من الأمور المعتادة بل و الضرورية لتوازن المجتمع ، في إطار الاقتصاد العام للمشاعر مابين الحاجة إلى الأمن النفسي و الحاجة إلى ضبط المخاوف من خلال التشخيص ، و لن تكون الجريمة إلا وسيلة من وسائل التشخيص الاجتماعي و النفسي لأحاسيس الخوف المتجددة ..
تماما كما طبعنا مع ظواهر أخرى ..كظاهرة التسول ، و زيادة عدد المتسولين أمام المخابز و الأبناك حتى صار تجولهم بين زبناء المقاهي أمرا معتادا ،رغم أن التسول يعتبر مدخلا لجريمة السرقة بكل أشكالها ..
إن النظر إلى ذلك التأثير وانعكاساته على الفرد والمجتمع و تنامي الجريمة، يتطلب من الباحث التسلح بمقاربات متعددة و تكاملية تجمع بين عدة علوم ومعارف إنسانية عميقة، وليس التعامل الظرفي والمناسباتي التي تلجأ إليه بعض وساءل الإعلام وهي تنتقل من حادثة إلى أخرى …
مما يتداخل فيه الطب النفسي مع علم الجريمة و علوم المجتمع …في مفترق طرق قد تلتقي فيه كل هذه العلوم و المعارف من أجل تسليط مزيد من الضوء على أنعكاسات هذا التأثير ..
لقد تعرض علم الإجرام لدور وساءل الإعلام و تأثيرها على ازدياد عدد الجرائم خاصة تلك الجرائم المقترنة بعنف مفرط ، و لا شك انه ينبغي الآن و نظرا للمستجدات ، و انحصار الصحافة الورقية و تقلص انتشارها ، التمييز بين تأثير وساءل الإعلام المكتوبة و المرئية ، و بين ما يقدم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي و ما يقدم على القنوات التلفزية من برامج مرتبطة بالجريمة ، و من أفلام تخييلية تتخذ من الجرائم موضوعا لها و من الفعل العنيف مجالا للإثارة و البطولة ، التي تجعل تساؤلنا مشروعا عن طبيعة هذا الدور ، خاصة و أن الكثير من الجرائم يعتمد فيها صاحبها على التقليد ، و لعب دور البطولة ، و تطوير أدائه الإجرامي انطلاقا مما يتعلمه من هذه الوسائل ..فعوض ان تكون وسائل ردع قد تصير عملية جذب لإعادة السلوك الجرمي و الترويج له ..مما يجعل البرامج التثقيفية و التربوية أكثر فائدة و نجاعة في محاربة الجريمة ..
و على العموم اختلف العلماء في تقدير تأثير هذه الوسائل في الدفع أو درء الجريمة ..فبينما رأى فيها البعض كبحا لها من خلال الكشف عن الجرائم و التشهير بمرتكبيها و فضحهم داخل المجتمع ..
رآها فيها آخرون خطرا على المجتمع و تطبيعا مع الجريمة ، بل و تحريضا من خلال إظهار المجرم كشخص طليق حر يفعل ما يريد يمارس عنفه على الآخرين دون أي وازع أخلاقي ، شخص متحرر من كل الالتزامات و الضغوط و الإكراهات . مما يستهوي الجانحين خاصة اذا ارتبط هذا السلوك بمظاهر الرقي الاجتماعي و الترف و الغنى و بتعاطي المخدرات التي تشجع على الفعل الجرمي ..
و لا شك ان لوسائل الاعلام دورا في التبليغ عن الجراءم و التحذير من تناميها و الإشارة إلى نوعيتها وتوصيفها …
وفي بعض الأحيان الوصول إلى فهمها و تحليل أسبابها ، لكنه تحليل في كثير من الأحيان نتيجة التسرع ، لا يرقى الى التحليل العلمي الموضوعي الذي ينضج في الغالب على نار هادئة بعيدا عن الحصري و السبق الصحافي على حساب التاثير الاجتماعي…
فالشعور بالامن ضروري داخل المجتمع تماما مثل الحاجة الى محاربة كل الظواهر المشينة في المجتمع بمحاربة أسبابها و نتائجها و عدم التطبيع معها ..والحرب ضد الجريمة هي حرب مستمرة تقتضي نوعا من الاستباقية في التحليل و فهم الانحراف و الجنوح و تأثير الاسباب في النتائج ، و إعادة النظر بشكل مستمر في سياسة التجريم و العقاب ..
لذلك نتساءل عن الفائدة الفعلية من عرض الجرائم و الفضائح ،و ماهي انعكساتها المستقبلية على الأجيال المقبلة التي تزدرد كل يوم هذه الحكايات من الرعب و الخوف دون ان يكون لها القدرة الكافية و الدرع الواقي لفهم هذه الأفعال ، و دون ان تكون استبطنت بنية التمييز بين الخير و الشر ، امام وسائل تنشئة عاجزة عن تعزيز أخلاق الفرد داخل المجتمع عجز المؤسسات التربوية التي أصبحت تفقد رويدا دورها التربوي لفائدة التلقين و التعليم فقط ..
و لا يحتاج الأمر الى تفكير عميق لربط جرائم الأحداث و اليافعين ، بتدني القيم الاجتماعية ،و ضعف الزاد المعرفي و طبيعة المادة الثقافية التي تقدم للشباب من خلال بعض وسائل الإعلام التي تقدم برامج لا تلتفت كثيرا إلى الجانب التربوي ، وتروج للاغتناء بلا سبب و الربح السريع و المسابقات المدرة للدخل . ..
كما يظهر من البديهي الربط بين ظهور بعض القنوات المروجة لأفلام العنف و القتل و جنوح الأحداث و المراهقين إلى ارتكاب الفعل الجرمي ، لأن الجريمة هي في نهاية الامر تصور و قبول يبنى في ذهن مرتكبها قبل انتقاله الى الملموس ، و قد تساهم التأثيرات الخارجية في ذلك بشكل أو بآخر ..
فعندما يطبع هذا الأخير مع المشاهد العنيفة ، قد يصير من السهل عليه ارتكابها و العودة اليها في شكل من الإدمان، كنوع غريب من إعلان الوجود الإجتماعي و البحث عن الاعتراف و تأكيد الذات ، و هذا يفسر ارتفاع حالات العود و اقتران الجرائم المتزايد بالعنف …مما يطرح ضرورة إعادة النظر في طرق معالجة الجريمة ..
فحتى النكتة الاجتماعية ـ عن صدق أو زعم ـ أصبحت تشير إلى ذلك ، كتلك الحكاية التي تقول أن أما سألت ابنها عن حياته في السجن فقال لها : ما خصنا حتى خير ، فحذرته من التفريط في تلك الوضعية الاجتماعية المريحة في نظرها ..
حلول مقترحة ..
ومن الحلول المقترحة النظر في وقاية المجتمع من خلال برامج التثقيف و التوعية ، و إعادة النظر في عقوبات بعض الأفعال التي تشجع و تؤدي إلى التحول الى جراءم أكثر خطورة في المستقبل كالترويج للمخدرات و التسول و الغش بكل أنواعه، و ايضا تدعوالضرورة الى أشكال العقاب البديلة ،و الاعمال الحضرية التي تفيد المجتمع و يحتاج اليها ، و تكوين الصحافيين في هذا المجال، وأيضا تعزيز القيم داخل المؤسسات التربوية، ووضع خطة منسجمة و موحدة بين البرامج التعليمية و البرامج الإعلامية ..و العودة الى التربية الاخلاقية و طرح مصطلح التربية على القيم من سوق التربية ، و الدفع الى خلق فرص شغل دامجة للشباب في المجتمع ، ومحاربة كل مظاهر التهميش التي يعيشها الشباب من خلال عودة دور الشباب وملاعب القرب ، وتقوية الثقافة المجتمعية عوض الثقافة الفردانية التي أصبحت تكتسح المجمع من باب دبر راسك، و عوم في بحرك ..