إن العلوم الإنسانية والاجتماعية قد تفيد كثيرا الإدارة وقد تساهم في الرفع من مردوديتها، فكل من الموظف والمرتفق ينتميان إلى مجتمع وثقافة ونفسية معينة ..والإدارة بدورها ليس إلا جزءا من هذه البيئة المجتمعية بل في غالب الأحيان تكون بنية اجتماعية موازية أو مجتمعا صغيرا ..
واذا كان علم النفس دراسة السلوك الإنساني في المجتمع فإن الإدارة العمومية هي دراسة النشاط الإنساني كما يقول أحد الباحثين في سيكولوجيا الإدارة ..
“Administrative psychology, also known as managerial psychology, is a subdivision of industrial and organizational psychology and deals with an understanding of the psychological patterns that are commonplace among groups and individuals in the workplace”
وعلم النفس يفتح نافذة جديدة من خلال محاولة فهم الأفراد والمجموعات بوضع مبادئ عامة والبحث في حالات خاصة ..
علم النفس هو دليل الإدارة العمومية لبلورة سياسة عمومية منفتحة على أفاق جديدة ، إن علم النفس والإدارة العامة مرتبطان ..لأن الفعل يحفز بسلوك النفسي للشخص ..
في الماضي لم يكن الإداريون يولون أهمية لعلم النفس ويعتبرون أن الإنسان كائن عاقل يرتبط سلوكه بالعقل والمنطق، ولكن دراسات لاحقة أوضحت أن علم النفس يمكن أن يفيد الإدارة العمومية ـ إفادة كبيرة ويكسبها أرباحا غير متوقعة.
” How can psychology help in administration?
Psychology is critical to the workplace. It helps managers at all levels of organizations select, support, motivate and train employees. It also helps businesses design products, build better workspaces and foster healthy behavior“
إن السلوك الإنساني ليس سلوكا عاقلا كليا كما قد يفهم الإداري ، فهناك الغرائز والعواطف و التقاليد والأهواء ..التي تلعب دورا أساسيا في حياة الإنسان ..مما يدعو الإداريين إلى تبني رؤية نفسانية لمقاربة مشاكل الإدارة ..فالإدارة معنية بالسلوك الإنساني ، والإداري الذي يواجه يوميا هذا السلوك الجماعي والفردي عليه أن يلعب دور عالم نفس تجنبا للصدام بأسبابه المختلفة ..فالرؤية النفسية ضرورية من أجل التطوير و النجاعة و عدم تضييع الجهود والوقت ..
إن البيئة النفسية للإدارة يمكن أن تكون نتيجة التقاء مجموعة من العناصر ، طبيعة الإدارة ، رأس الإدارة ، الموظفين والمرتفقين ، المناخ الإداري العام ، شيخوخة المؤسسة ـ طبيعة النشاط الإداري و أهميته ، وحتى معمار الإدارة ودرجة استقباليتها ..كل واحد من هذه الأطراف يتعالق بنفسية معينة ويساهم في النفسية العامة للمؤسسة ..ويكون نتيجة تكامل مجموعة من العوامل ..
“إن علم النفس الإداري أو علم النفس التدبيري يندرج ضمن علم النفس الصناعي والتنظيمي ويتناول الخطاطات النفسية وسط المجموعات والأفراد في موقع العمل ، الذي يمكن أن يستعمل للكشف عن الخطاطات النفسية المؤذية في موقع العمل ..
و”علم النفس الإداري يمكن أيضا أن يستعمل في ضبط النماذج النفسية المفيدة للتنظيمات على المدى البعيد ..كما يمكن أن يستعمل في تحفييز التعاون و عمل الفريق”.
أهمية الإدارة في التحفيز على العمل، لا تخفى على أحد سواء في خلق الجو العام أو في استقبال المرتفقين وفي قضاء المنافع العامة، وإعطاء صورة إيجابية عن جودة تدبير المرفق العمومي ، وغالبا ما يلعب رئيس الادارة برمزيته الخاصة دورا أساسيا في التأثير الإيجابي ..
وحسب التجارب يمكن تصنيف هؤلاء إلى المطمئن وغير المطمئن، والميسر والقلق، والخائف والجسور والمشارك والفرداني والموقن والمتشكك والمشجع والمثبط الخائف من المبادرات والمتلف لها المبعد لأصحابها ..وكل واحد من هذه السلوكات النفسية الشخصية يؤثر على سير مجموع الإدارة ، ويجعلها تنتشي بمرحلة فلان وتنكص بمرحلة آخر ..
إن المقاربة النفسية للحقيقة او الحقاءق الإدارية قائمة على التعارض ، وتجمع بين غموض الإدارة أي السلوك الغامض الضروري للإدارة وذاتية الإداريين والمرتفقين، بين عدم التحفيز و العداءية، والموظف بشكل عام يكون مجالا خصبا و حقلا للتوترات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية.. وحقلا للتجاذبات الاجتماعية والنفسية ..
والسؤال المطروح هل يمكن التخفيف من هذا التعارض، خاصة أن الإدارة تهمل الجانب النفسي ولا تنتبه إليه ..
من حيث المبدأ إن الجانب النفسي للإدارة مؤثر على الموظف، وكان على علماء النفس أن يتخذوا موقفا من سيكولوجيا الإدارة وخاصة الجو الذي يعيشه الموظف بين المطرقة والسندان، بين الأوامر والمتطلبات الإدارية والقوانين الملزمة وطلبات المرتفق بالمرونة في تطبيق تلك القوانين ، و هي وضعية إشكالية تهم المختصين في العلوم الإدارية والباحثين والنفسانيين وأصحاب التحليل النفسي ..
ونخلص أن الجو النفسي في الإدارة لا يخلو من أهمية في نجاح الإدارة والمرفق بشكل عام ، وفي هذا الإطار لن نميز بين مرفق عام ومرفق خاص ..
قد يعتقد البعض أن الإدارة مكان لتطبيق القوانين والإجراءات فقط ، لكن دون وعي يفرز المكان الإداري حالة نفسية وعلاقة تراتبية، إما يطبعها الارتياح النفسي أو القلق والمزاجية وعدم اليقين ..
واذا كان الهدف من الإدارة تقديم خدمات للمرتفقين وتحصيل أو تقديم أو تنفيذ وتطبيق القوانين، فان الوضوح والشفافية وصحة فهم القوانين و تطويعها لتحقيق الصالح العام و النقص من المشاكل و التوترات ، و تشجيع العمل داخل فريق والعمل بالاستشارات قبل التنفيذ ـ ميات تخميمة ولا ضربة مقص ـ تظل من أهم أسس التدبير الجيد، ناهيك إن فهم الوقع النفسي للقرارات الفجائية التي قد تشل العمل الإداري أو تنقص من فعالية بدعوى التطبيق النصي للقانون قد يعطل دواليب الإدارة عوض تسريعها ..
وهذا لا يعني أننا ندعو إلى عدم الاهتمام بتطبيق القانون، بل ندعو إلى حسن تدبير القانون لصالح الإدارة نفسها لتحقيق أهدافها التي جاءت من أجلها سواء الخاصة بالمرتفق والموظف والإدارة نفسها وخلق الجو النفسي والتحفيزي الملائم .
فكم من قرار عطل عمل الناس وعطل عمل الإدارة، وكم سوء فهم للقانون خلق مشاكل وصراعات ومنازعات لا فائدة منها، لذلك يدعو الاهتمام بالغاية أن يكون الاهتمام بالوسيلة، وعندما تكون سيكولوجيا مناسبة داخل الإدارة تتحقق الكثير من المنافع وتسير الأمور ويسود التعاون و روح الفريق ..
إن كل إدارة تفرز ثقافتها الخاصة التي تنعكس حتى على وجوه الموظفين وابتساماتهم ونوع حديثهم وانسجامهم، ومع ذلك ينبغي للإدراة أن تؤمن بالاستمرارية وأن توثقها، لا أن تفهم أنها بداية جديدة كلما تغير المسير، على الإدارة أن تؤمن بالكفاءات وتحفزها على العمل وتنقص من الولاءات التي تعطل دواليبها بشكل نهائي ..
وعلى المدير أن يبعد عن مكتبه أشخاصا من طينة المهرولين الباحثين عن المنافع والذين لا يدلون برأي وليس فيهم فائدة ، وكل همهم نقل الأمور الزائفة عن غيرهم للتمكين لهم، فكم من مدير أغرقه هؤلاء في قرارات لا قانونية ..
إن هؤلاء خطر على سيكولوجية الإدارة لأنهم يزعزعون الثقة فيها، ويخلقون إدارتهم الخاصة بعيدا عن الإدارة الرسمية مستغلين التقرب والثقة الزائدة لا الكفاءة ..
إنهم في الغالب سيكولوجيا معارضة وقاتمة تعيق عمل الإدارة، فهم غالبا ما يروجون الوشاية وتكريس السلبية، ونقل التقويمات المرضية إلى شخص المدير الذي لا ينبغي أن يعتمد على السمع، فهم في الغالب مبتلون بهذا السلوك الطفولي، نتيجة رهاب طفولي فينقلون الكلام محرفا في الاتجاهين ـ فمن قال لك عليك ـ
لذلك على الإدارة في العموم، أن تتسلح بسيكولوجيا إيجابية وبرؤية عميقة قادرة على كشف كل سيكولوجيا تعيق سيرها ولا تساعد على التقدم الايجابي والتعبئة العامة، وأن لا تتخوف من الصراعات والاختلاف في المجالس العامة، فغالبا ما يكون الاختلاف هو المؤشر الأمثل على حسن سير الإدارة وتواصلها الفعال .
و الادارة ينبغي أن تتميز بالروح الإدارية التدبيرية التي تكون حكما رفيعا في كل خلاف، و بالترفع عن الخلافات الشخصية والخلافات بالوكالة ..
والمرتفق بدوره يؤثر في سيكولوجيا الإدارة، من خلال ثقافته وسلوكه ونظرته ودرجة تعاونه ، وقد تحدث الباحث شوفاليي عن صور المستعمل للإدارة، وقام بتصنيف المرتفقين حسب وضعهم وسلوكاتهم وأوصافهم في علاقتهم مع الإدارة باعتبارهم المستفيد الأول من الخدمات الادارية..
“فمنهم المستخدم المدار ، أو مستخدم المرفق العام المتعاون حسب كثافة علاقته مع الإدارة واتصاله بها .
و يكون في بعض الأحيان في وضع أسر خاضع للخدمات الإدارية والفعل الإداري كما في الضرائب مثلا … في نوع من الإكراه المؤسساتي الذي يمكن آن نطلق عليه ديكتاتورية العرض “.
من خلال حالة وسلوك المستخدم، تظهر العلاقات الهرمية، وتحليل التفاعلات اللاواعية يفيدنا في فهم الجو النفسي والتواصلي للإدارة ..ومن خلال المقاربة النفسية للحقائق الادارية يظهر الشرط التراتبي، والتشريط الناتج عن البناء الهرمي الواضح للخدمات والأعمال حيث تتمركز السلطة والقرار في مستوى أعلى في قمة المؤسسة، ومن تم تمنح للعاملين بالإدارة وضعية وهوية تبنى على الانفصال عوض الاتحاد من أجل تحقيق أهداف محددة ..
وهي في الغالب وضعية جامدة ، عبارة عن بناء لا يهدف إلى الدينامية والتطور، بالعكس هي وضعية ثابتة ترفض التحول، وتكرس التراتبية ..
إن الشرط الهرمي الذي قد تغرق فيه السلوكات الإدارية لمدة طويلة، يؤدي إلى الطاعة والخضوع والخوف من الجديد ورفضه ..
فالمؤسسة الادارية من أجل ضرورة الانسجام، قد تكون مبنينة بشكل مفرط أو مبالغ فيه، وتكون التراتبية الواقع الأكثر ظهورا لهذه البنية، ولذلك فان هذه البنية للإدارة هي نتيجة القانون وممثلة له ..
وهذه البنية التراتبية هي الدليل على أن القانون يشتغل في الإدارة، وأن العلاقة متينة عادة بين القانون المؤسسة ، فالمؤسسة هي القانون ..
إن الإدارة تفرز في متخيل المرتفق المجبر على التفاوض معها طرفان غير متكافئان، مما ينتج عنه متخيل ثقيل ومرعب للمرتفق في بعض الأحيان، مثل مواجهة الكائنات المخيفة ..مناخ كافكاوي لا منطق له ..
في وجه الإدارة تتضخم الاستيهامات والاسقاطات وتمثل التوحش والضراوة، وتحيل المبالغة في التصور إلى الأصول الطفلية المتخيلة الرافضة للواقع والقانون ..
وقد تؤدي الى سلوكات وأفعال للإفلات من أي مواجهة أو إذعان، كما في التهرب الضريبي، أو الاعتداء على بعض الموظفين ..مما يدفع الإدارة إلى سن استراتيجية تشريك المواطن، وتحريك الاتفاقيات والتعاقدات وبناء عمل حقيقي للتنشئة الاجتماعية، وسن تربية دائمة من طرف الإدارة ..
كما نلاحظ وجود اختلاف ثقافي في العلاقة بين المواطن والإدارة وفي نفسية هذه العلاقة التي تتصف بـ “الحوار”.
يشير “بيير صادران” إلى التوازي وعدم التناسق في السياقات التي توجد فيها مؤسسات الوساطة، والسعي لتحقيق الشفافية الإدارية، ويُطلق على حالة وسلوك المستخدم اسم مؤسسات الشفافية والوساطة الإدارية.
ويقدم “هربرت هايسل” في الموضوع المقترحات التالية ..
“الاقتراح الأول يجادل بأن المواطن المعزول لا يستفيد من الشفافية الإدارية على الأقل ليس بشكل كامل”.
الاقتراح الثاني ينص، مع ذلك، على أن “مؤسسات الوساطة ضرورية لتطوير جميع إمكانات الشفافية”…
فما يدفع الفاعل الإداري إلى التصرف ليس محتوى النصوص ولكن قيمة النظام الآمر الذي تعكسه هذه النصوص، ربما يكون هذا هو الجانب الأكثر دقة في هذا التبعية .
فالى أي حد يستطيع القانون الإداري أن يستدمج الجوانب النفسية لضمان حسن تطبيقه داخل المؤسسة الإدارية ..هذا ما ستجيب عنه الأيام و إصلاح الإدارة .
……………………..
psychologie et science administrative, C.U.R.A.P.P., P.U.P., 1985 p, 287. Colloque d’Amiens du 10 mai 1985, sous le même intitulé Numéro 1985/2 (Volume 15)Marie-Jeanne Gerard-Segers Dans Revue interdisciplinaire d’études juridiques 1985/2 (Volume 15), pages 245 à 259