على هامش مباراة المغرب مصر يوم 30 يناير 2022، شاهدت الشوط الأول في المقهى القريب، و رأيت حماس الجمهور المنقطع النظير المتعطش إلى الفوز ، شعور جميل متمكن من النفس يوحي بروح جماعية متضامنة ..لحسن الحظ انصرفت قبل الشوط الثاني ..و كنت مشفقا على الجمهور عندما سمعت النتيجة رغم أن الكرة منفوخة بالهواء كما يقال ولا تتجاوز في نظري طابعها الرياضي..
يظهر وكأن الأمر أصبح يتجاوز لعبة الكرة القدم ، كلعبة لم تظهر بشكلها العالمي المهيمن إلا بعد الستينات نتيجة مجموعة من التحولات الإيديولوجية في العالم المعاصر ..
لقد تحولت كرة القدم في السنوات الأخيرة إلى فرجة شعبية و عقيدة عالمية تخلط بين الفرجة الجماعية و الهوية الفردية التي قد يمثلها الانتماء إلى فريق معين و إلى لون و إلى رمز ، بل أصبحت صانعة للهويات في العالم المعاصر ، فعالم الحداثة لم يقطع الطريق على الأساطير والأوهام بل خلق أساطيره الخاصة المتمثلة في رموزه الجديدة التي تؤثث عالم الإنسان المعاصر، و تخلق فيه المعنى الذي بحث عنه الإنسان في مختلف أنحاء المعمور من طرح سؤال من أنا و من أكون ..
فالمباريات أصبحت تتخذ في بعض الأحيان أبعادا أسطورية ، و كأنها تعيد كتابة التاريخ كما يقول أحد المعلقين، وكما تفيد بعض التعاليق التي تسبق المباريات أو تنهيها، إنها تقدم كلحظات ملحمية في تاريخ الشعوب ، خاصة و أن بعض الفرق و النوادي الكروية تحولت إلى مرتبة الدول والرموز الوطنية و الدولية ..فبعض الفرق العالمية أصبحت مشهورة أكثر من الدول نفسها ..
و قد لعب التعليق الرياضي و كبار المعلقين، و لعب الرهان على انتصار الفرق العالمية ..دورا مهما في تصوير هذه اللعبة و تمثلاتها عند العموم ، و صارت مكونا أساسيا للثقافة العالمية ضمن العولمة الرياضية ..و لهوية رجل العالم الذي لابد أن يناصر فريقا من الفرق العالمية إن أراد الوجود العالمي ..
ويوما بعد يوم أصبحت المباريات تتخذ شكل مواجهات و حروبا حقيقية بعيدا الروح الرياضية ، و زادت كلمات مثل النزال و الهجوم و الدفاع و القذفات الصاروخية و غيرها من الكلمات المنتمية إلى المعجم الحربي في التعليقات الرياضية ، بالإضافة إلى الحديث عن الملاحم و الأساطير و البطولة في إضفاء جو من السحر على هذه الحروب الرمزية الصغيرة ..
كما لعبت الأبعاد الاقتصادية و الأسباب السياسية دورا مهما في إذكاء الصراع ، و تنمية الصراعات اللاواعية بين جمهور هذه الرياضة ..فالعرب لم يبق فيهم أحد في المنافسة الدولية كما يقول أحد المعلقين ، و هذا الفريق يمثل الافارقة كما يقول آخر …مما يعني أن الرياضة عوض أن توحد بين الشعوب أصبحت تزيد من الخلاف و تذكي الصراعات ..يقول أحد التعليقات :
<<ويبقى منتخب الفراعنة ممثل العرب الوحيد في بطولة أمم أفريقيا بعد خروج منتخب تونس يوم أمس أمام بوركينا فاسو وخسارة المغرب بالطبع أمام مصر اليوم>>.
إن العصبيات تعود كل مرة إلى الواجهة مع بعض المباريات لتحمل اللعبة أكثر مما تحتمل ، كما لعبت تقنيات التسويق و الاستشهار و لغة المعلقين و حوارات المدربين و اللاعبين و الصحفيين المتخصصين في المباريات الدولية ، دورا أساسيا في تسخين الأجواء و صنع الملاحم اللغوية المحركة للمشاعر العامة ..فأصبحت الكرة مناسبة للتأثير في الرأي العام العالمي و تصفية الحسابات الخارج رياضية ..
و كلما جمعت المواجهة بين الجيران و أبناء الهوية الواحدة استشعرنا مشاكل خاصة تصل لدرجة العداء عند البعض ،تمثل ما يشبه المشاعر المتناقضة في المنافسات الأسرية ـ مابين الحب و الكراهية ـ التي تجمع الإخوة و أبناء العمومة في الأسرة الواحدة من صراعات مخفية و ظاهرة ، مما يمكن القول معه أن الهوية الكروية صار هوية مستقلة صانعة للهويات الجديدة و الظرفية، وجزءا من واقع الحال الربحي المباشر المبالغ فيه ، و المناقض لعلاقات و نظام القرابة ..
لقد تحولت اللعبة إلى ثقافة عامة ، و اتخذت أبعادا سياسية و ثقافية مهمة جدا ، وفي كثير من الأحيان اتخذت صورة من صور الهوية الممجدة ،و الملاحم الوطنية التي ارتبطت بفخر و اعتزاز الجمهور المبالغ فيه اللحظي بالنصر الكروي ،أو غضبهم و شعورهم بالإحباط و عدم الرضى ..
فيكفي هدف واحد يسجل على <<الخصم >>من أجل تغيير المشاعر و الاحتفال في الشوارع بالنصر ، وتمجيد اللاعب الذي سجل الهدف و اعتباره بطلا قوميا و أسطوريا، و اعتبار اللحظة تاريخية بكل المقاييس ..
لقد أصبحت الكرة تصنع الأبطال و حولت المشاعر الجماعية و العالمية بالانتصارت و عددها إلى أساطير جديدة تتجاوز ما هو رياضي، لم يكن تتصور في القرون الفائتة حين كانت البطولة عضلية أو ذهنية ..وتحولت كل الأحاديث و الحكايات الاجتماعية إلى ذكر سيرة ذلك اللاعب الذي اصبح يضيئ المخيلة الجماعية لكي يكون النموذج الذي يقلده الأطفال و الناشئة ، تماما مثل أبطال الحكايات و السير الشعبية في القديم…
ومن خلال تأمل التعليقات المواكبة لهذه المباراة التي وظفت من البداية التوظيف الصراعي للرموز الفراعنة في مواجهة الأسود ، و استعمال الأوصاف، مباراة من العيار الثقيل ، نهائي مبكر ..اللاعب الأسطورة ..
و عبارات التفضيل من قبل : أسرع و أفضل لاعب و لو كره الكارهون، و أكبر هداف ، أحسن حارس، قتالية رائعة ، الأسود يدافعون ، و الفراعنة يهاجمون ، عمل عظيم .. مما يعرض المباراة و كأنها مكسب استراتيجي ثابت أو كخسارة دائمة ….
مما يظهر دور الأوصاف في توجيه المشاعر و اللاوعي الجمعي، وإعطاء المباراة أكثر من قدرها الحقيقي في نوع من صناعة الوهم ، رغم بعض الآراء الحكيمة و المهدئة لتجنب المبالغة في تحريف دلالة المباريات الرياضية و إخراجها من سياقها الخاص ،و التي تستنكر صانعي الفتنة بين الشعوب أو بين الأشقاء، لكن يبقى السياق العام المصاحب لها هو تهييج الجمهور و إذكاء النزاعات ، و كأنها عودة إلى زمن الاحتفالات الدموية عند الرومان ..
و أنا اقرأ تدوينة عن فرح إخواننا المصريين بنتيجة المباراة ، و هو أمر عادي ، و فقدان أحد المذيعين لصوته من شدة الحماس ، و خطابات الاعتذار للجماهير و الحزن و الشعور بالخيبة ، و مشاهد المواساة، ووصف لاعب بأنه رجل المباراة ،أرى أن المباريات أصبحت تتجاوز الرياضة الذي من العادي أن يكون فيها أحد الطرفين منتصرا ، إلى كونها تحمل بأشياء أخرى أكبر من حجمها ..
في بداية المباراة يوصي أحد المدربين بالحذر، وعدم إضاعة الكرة و التواصل بين اللاعبين، و هكذا يشخص الوضعية التي كان عليه أن يعالجها منذ البداية ، و يقول لاعب أنه لن يدخر جهدا في تحقيق الانتصار ، و هكذا تكثر التعليقات يمينا و يسارا..و في بعض الأحيان حسب هوية المعلقين و رغباتهم و بعيدا عن الحياد المطلوب ..
يقول المعلق في الشوط الأول من المباراة : ربع النهائي في ذاكرة التاريخ و ذاكرة كل العرب، يقدمون كل ما يمكلون بين كل العرب ، و تساهم تلاوة الأناشيد الوطنية ، و جولان الكاميرا على وجوه اللاعبين و هم في وضعية خشوع و خوف ، كم هي جميلة هذه اللحظات في إرضاء المشاعر الوطنية ، لكنها لا ينبغي أن تنسينا أننا بصدد لعبة رياضية ليس إلا ، و لا علاقة لها بأي مواجهات مصيرية للهويات كما تريد أن تشخصها بعض التعليقات الرياضية ..
الوقوف عند ملامح الشخوص و هم في موقف انتظار و خوف، عرض ملامح الفريقين اليد الموضوعة على القلب، العودة إلى الجمهور المتأهب يزيد من حرارة المباراة …
قبل أن يعلن الحكم صفيرة البداية ، يتم عرض صفوف المشاركين صامدين واقفين يستعدون للمواجهة في صف واحد كفيلق من الجنود ، والعودة إلى ذكر المواجهات القديمة بين الفريقين ، و استرجاع انتصارات الماضي و إخفاقاته، كل ذلك يزيد من تشويق الجمهور للقاء يشخصن في بعض اللاعبين المتألقين من كلا الفريقين، دون عموم الفريق ، مما يجعل المباراة أشبه بمباراة بين رمزين وقائدين ، و لا يخلو إصباغ عدد سبعة على اللقاء من إضفاء طابع أسطوري سحري على هذه المواجهة الحسم حسب التعليق الرياضي..
تبدأ المباراة باحتجاج المشاهدين،وانتظار الإعلان عن ضربة الجزاء،تردد الحكم،تسجيل ضربة الجزاء، عرض منجزات المنتخب ، و البقية تأتي في انتظار روح رياضية ينبغي أن لا تفارق الرياضة و أن لا تعطي للمباريات أكثر من حجمها الكروي ..