اسمحوا لي أيها الأفاضل الكرام، إن كنت أشاغب لحظة الاحتفاء هذه، مستنفرا حدود الكلمة وأوثاقها، استسلاما للمناسبة المقدسة العزيزة على قلوبنا جميعا… فالحديث عن لغتنا تجاوز المدى، وأضحى من الواجب الأكيد، تقييد النظريات بالتحليق بعيدا عن تقاليد القول وزيادة… وإن كان العلم بذلك ونشره من فضائل الحضارة وجليل العِبارة.
إن الاحتفال بلغتنا العربية، عدا كونه جزءً من التعبئة واستعادة الوهج وتدبير خلاف الأسئلة الكبرى المطروحة بإزاء ذلك، فإنه أيضا تعيين السيرورة، وتجسيرُها في الوعي الجمعي، ومحاولة استقصاء ذواتنا ونفضها وفسخها من الخمول والتشاكل وقطع دابر الضرر.
ولَعَمري، إنما استعرنا المنقلب، وأوعزنا إلى وجودنا المضطرب، أن الخطر الداهم على الهوية والثقافة، لن يأتي سوى بالبلاء والاستغراب وخطف البصر. وأن الليل لا ينجلي بالدعاء دون العمل، ولا الصد المفزع دون إعمال المكائد. فالحرب هاهنا خدعة، لأنَّ الأوبئة الأخلاقية المنتشرة، أضحت تهلك الضرع والنسل من ثُقب الشاشات والآلات والأهواء ومخارم القيم الجديدة بأسلحة فتاكة منها التقني والرقمي والسيبراني.
والمقام هنا، يستدعي بسط مثارات هذا الفهوم، من أجل مقاربة استقصائية، لمعنى أن نجتمع معا، لندير طفرة الشراكة التي تقتضي الإمعان في محتوى قابليتنا على تشكيل جسد فكري موحد لمواجهة مشكلات اللغة. عن أي لغة نتحدث ؟؟
وفي المضمار الإعلامي الحديث، يمكن صياغة أسئلة بديلة: ما قيمة اللغة في الإعلام؟ وكيف نتمكن من تأطير دلالة وجود اللغة في العقل الإعلامي؟ ما هي درجات التأثير اللغوي في ماكينة التغيير في الإعلام؟ كيف نحول اللغة إلى قيم إعلامية؟
هذه الأسئلة وأخرى، تفرض ها هنا حيزا فكريا وثقافيا وبيداغوجيا ذا أبعاد استراتيجية كبيرة، حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، ونعيد تأصيل اختيارنا لهذه المهمة الجسيمة.
إن اجتماعنا اليوم، وبهذه الدرجة المهيبة، حيث تكمن سعادتنا في جعل لحظة الإبداع من منطق حرصنا على البصم العميق لهذه المحبة العظيمة لهويتنا اللغوية والثقافية، لَيُشفي غليل الأرواح التي تعقد الإيمان على مبارزة الراهن المؤسف الذي تعيشه لغة الضاد، وما تستنزفه طاقاتنا جراء ذلك، في كل الأوكار والحشود والقطائع والرزايا ( من الأسرة النووية إلى قلب المدرسة إلى الشارع… إلى الفضاءات التي تضمنا جميعا، مشدودين بحصار الضعف وفقدان النجاعة وترسب الإغفال وزحف الاستلاب وفقدان شروط الكفاية.
وجميل ما وُصِفَ به الضعف عندما قال المتنبي :
ولا الضِّعف حتـــى يتبعَ الضِعْفَ ضِعْفُــــهُ ولا ضِعْفَ ضِعْفِ الضِّعْفِ بــل مِثْلــُهُ أَلْفُ
ولعل من الإدراك النبيه أن يعلو صوت اللغة في هذا المقام الرباني النادر.
فَمَنْ يسْأَل عن شأن الإعلام وعلاقته باللغة العربية، فإنه لمن العقل والنجابة أن يعيد الصياغة إلى الآتي:
- وما يكون الإعلام، إذا خرج عن لُغته وتاه بين ترائف الحشو والزَّبَد واللقائط والحتوف المهووسة بالفراغ والغوغائية والرِّدَّةِ الأخلاقية؟
إننا لَنَعْلَم أن حفرنا في الصخر أهون من أن نلتمس هذه المغافل ونرتع في تعمية بصائر الناس. ولهذا اخترنا هذه الطريق.
إن انحيازنا إلى هذه الشراكة الرابحة، هو رسالة لإعلامنا، أن أُنفض عن أَسْمالك الباليات هذا الرهان المبطل للهوية، وأَنْ أَعِدْ لكل ذلك دَمَهُ الذي خُلِقَ له وأُسِّسَ لأجله، فالقابض على الجمر يدرك تماما أنه على نهج الحقيقة، وأن حقيقة وجوده واعتباره تبدأ من ثقافته الوطنية وانتمائه الحضاري، ولن يتأتَّى ذلك دون اعتمار مسرج للهوية اللغوية واللسانية والكلامية… وإِنَّه وللحقِّ والتاريخ، فقد وجدنا في كلية اللغة العربية بمراكش من يُصْغي بحكمة وأَنَةٍ وإِخلاصٍ لهذا الهم الذي نَحمله جميعا، نُصْرةً للغة الوحي…
إن إصلاح الأرض ونثر البذور وتسوية التربة تجعل من المهمة الشاقة حدثا للتاريخ ولبوصلة المسار وطريق الخلاص، فهي والله وقفة تأمل نُشاهد من خلالها حَمْأَةَ الوعي بالقيم ومسعى مولد الحياة ونموها بعد قطيعة لحفها الضنك وسوء المآل وسراب الفعال.
وإنِّي لا أجِدُ في الختم، غير هذه الذرة الفريدة: ( إنما القرآن جِنسية لغوية تَجْمَعُ أطراف النِّسْبَةِ إلى العربية. فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكما).
** الكلمة ألقيت في افتتاح ملتقى اللغة العربيى الأول بكلية اللغة العربية بمراكش يوم الجمعة 17 دجنبر 2021 بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية.