لم يسبق لي أن رأيت شيخ المقاومة المغربية مولاي عبد السلام الجبلي، حزينا واجما، قليل الكلام أو مهموما من شدة الغيظ والكمد، مثلما هو الحال وهو يبدي عجبه مما ساد فتنة غزة ومقتلتها العظيمة..
فقد صرح خلال حديث متلاطم كعادتنا ونحن نستعرض أمامه آخر أخبار أهلنا في فلسطين السليبة، أن الكلاب الغلاظ المأفونين من أبناء الجلدة، قد باعوا بالخذلان والذل والعار كل قيمة للنصرة والعزة، وطعنوا في آخرة حر الموت ومآسيه، كل أمل في استعادة العزيمة والإرادة؟
ولم يسبق لمولاي عبد السلام الجبلي، أن أبدى وجهة نظره، بهكذا ألم وحسرة، مجزما بقلق استثنائي فظيع، لدرجة استصراخ العالم المحيط، الغائب المغيب عن أفعال منكوسة مستهامة. فقد بات ينظر لقسوة الأخوة والجورة والمشترك الإنساني، كأنها قيد يسقط كل آرام الوطن الواحد والانتماء الخالص والامتداد الملتحد. وأيقن في لحظة انخطاف حائر أن مقتبل الزمن وأسراره المأزومة، أضحت وبالا وخسفا على أمة لا تسبح سوى في غثاء مهيض ومجحف.
ـ لا يبعد عنا، سوى ذاك النشيش المتهالك من أورامنا المزحومة بالكسل والقعود الزائف والنكوص السافر .. فكيف لبنائنا أن يتعاقدوا مع هذا الفراغ المخيف؟
وكيف لمستقبل بلاد أن تصير في هكذا احتضار وشنار؟
ـ يقول مولاي عبد السلام الجبلي، وهو يحاول تفكيك دراما الحرب الإبادية الشنيعة على أهالي غزة الأحرار، بأطفالها ونسائها ومسنوها.
وفي فورة كظيمة مثلومة، تعوق عبرة سخينة مقلة السارد الحصيف، وقد اجترح عن فقدان محبرة الرثاء، أنهارا من رؤى الحياة، وهي تنسرب بين مناقرها المأفونة أحزمة من بؤس الزمن وعادياته.
تستعر الخطوب والأنواء، في مصائد القول ونيرانه، فيوتر المؤرخ مولاي عبد الله العلوي، بحكمته المعتادة ودأبه المتفرد، أن يسترد من خلال الحديث إياه، نبوة التصافي وميزاب التواصل، ويعيد شيئا من شامة الدين ومبلغ العرفان إلى نافلة الابتلاء وقضاء القدر المعلوم المكتوب.. فتعود آثار القراءة لطبائع التاريخ وقصصه العابرة، لتنط بين اجتلاء وامتلاء، إغلال وإضمار، إصرار وإدبار ..
المقاوم العظيم المتفرد، المعتزلي الصامد في قيم الإخلاص والوفاء لثورة الحرية والتحرير، مولاي عبد السلام الجبلي، ما يزال ينبض بإرادة الحق وتحرير الشعوب المستضعفة، مهما جارت الأزمنة وامتنعت عن وشم إسارها، متجردا من قواصم العتمة ومسامير السقوط المحذور.
وهو إذ يفعل ذلك، مؤمنا بعاقبة الموعود بالنصر والمأثور بنوازع الصمود والتحدي.
وكأني به يردد قول جبران خليل جبران:
صمدت لصرفهن صمود صخر فكم سهم تكسر دون صدري
هو كذلك، حينما يذكر قصص المقاومة وعبرها المبتوتة في الأوراق والأرشيفات المتجاورة، يحس كأنه يتنقل بين أيام عميقة التأثير، واجمة في مسلك الوطنية، يعدل بوصلته في راهن ينسلخ باهتبال شنيع ومدجن، ليعيد صياغة العالم، منتقدا ومنتفضا ورافضا كل أوجه القبح والرداءة وقلة البأس؟
مقطع من مشروع كتاب يحمل عنوان “نثارات سنية من سيرة الشرفا الصفية”*