على هامش نكبة الزلزال: ………
“المدينة، ليست عقلا فحسب.. إنها عاطفة وفضيلة أيضا، لا هيمنة فيها، على أي شيء، حتى الذكاء” .
الأفكار المتينة الصامدة، هي التي تبني جمال المدن وحضارتها، قبل أن تنسجم آفاق التخطيط العمراني كله، وتتآلف أنساق العمارة والعيش المادي فيها. فهي بذلك تنطبق في مفهوميتها الجديدة مع ما ذهب إليه لوكوربزيه، من أن المدينة “عبارة عن خلاصة تاريخ الحياة الحضرية مجتمعة”، قبل أن نصل إلى سيرورة تشميل المفهوم، ليصير محيطا بكل أدوات الحياة وإيقاعها، حيث النظر بقوة إلى كل ما يربط المدينة تلك ب ” الناس والمواصلات والتجارة والاقتصاد، والفن والعمارة، والصلات والعواطف، والحكومة والسياسة، والثقافة والذوق”.
وبعيدا عن الديماغوجية المنمطة، فإن استيعاب هذه الفلسفة راهنا، أضحى يشكل عائقا في تحديد أدوار تصورنا للعمارة والمدينة والحياة بداخلهما. حيث لم نتمكن بعد، من ضبط “العيش في المدينة” و”ثقافتها” و”طرق تنظيمها” و”رصد أحوالها”.
وعلى اعتبار أن أحد أهم ما يميز قراءة “المدينة الاجتماعية”، في مبنى هذا التصور التقليدي السطحي، هو ضعف تلقينا للمفهوم الطبيعي لهذا الكائن المعرفي المنسجم والمتناغم مع كينونة البشر وحاجياته، ومسؤولياته تجاهه، ومقصديات أعبائه تجاه التحولات والارتدادات، فإن استئثار الأنساق الحديثة، في ظل انبلاج عصر السرعة والأنترنيت والآثار التي تعكسه صروف الذكاء الاصطناعي واشتباكاته التقنية والمعلوماتية، أضحت تخيم على “مدينة برواداكر Broadacre City “، التي ينظر إليها رائد العمارة العضوية الأمريكي فرانك لويد رايت ، والذي يشكل كتابه العبقري “المدينة المختفية The Disappearing City” “، واحدا من أمثولات تغيير أفكارنا تجاه ما يستدعيه فهمنا “للمدينة المستقبلية” .
انشغل رايت بالعمارة العضوية، التي هي في العمق، “الشكل المعماري للمبنى، وبنائه تبعا للبيئة المحيطة”. ما يفرض الالتزام بأوضاع المحيط الاجتماعي، وقياس ظرفية البناء، وتأطير جماليته، وتحديد خصائصه وفقا لطبيعة البيئة والناس والمستقبلات الأساسية للعيش.
وبينما تتفوق كل هذه الاعتبارات على دوافع إيجاد ما يحفزنا على تنظيم هذه القياسات المجالية والجغرافية والفنية، وفقا للقانون الذي يوظفه مجال التعمير والإسكان، لا نكاد نصل حتى، إلى فهم روح فلسفته، واستحضارها حسب الحاجة وتوافر الإمكانيات الرمزية والمادية. بل إننا نتيه قصديا في تحريف المأمول، وتوسيع المحذور، والإيغال في الحذف والتوظيف النشاز، والتقصير، في أحايين كثيرة، في الالتزام بأصول المعمار وضبط أركانه ومناحيه.
ما حدث في كارثة زلزال المغرب، بمدن مراكش وشيشاوة وأزيلال والحوز وتارودانت، من دمار شامل، وخسف عظيم، هَمَّ القرى النائية والمداشر الجبلية والأحياء العتيقة، هو ترجمة صريحة لهذه المصفوفات المترامية على أعقاب الميل الخاطئ إلى ما يشبه التكوين الإنشائي للمباني العشوائية التي تجعل من البلاطات الخرسانية المسلحة البارزة، ظهرا لا تستحمله القواعد الهشة للطين والقش. كما هو الشأن بالنسبة للأسطح المرفرفة على الواجهات لتظليلة وحماية للفرندات الخشبية من العوامل الطبيعية. وتنسحب هذه الوضعية المتهالكة، على جزء كبير مما يعرف بداهة، في الدرس الهندسي ب”التهيئة الحضرية” ، التي تعاني “أزمة مدينة وحضارة ومعمار جمالي”، ما يصعب حقيقة أشكال التدخلات ، وتمركز المدن بالساحل وبالمناطق الفلاحية والمنجمية، مما يسهم مباشرة تعميق التفاوتات المجالية داخل التراب الوطني، وظهور ظاهرة الاستقطاب الحضري من طرف المدن الكبرى، كمراكش والدار البيضاء والرباط وطنجة وغيرها. ويزيد من تفاقم المشكلة، ارتفاع الطلب على السكن وعلى التجهيزات الاجتماعية في المراكز الحضرية والشبه حضرية، وارتفاع نسبة البطالة، وتنامي ظاهرة الفقر الحضري، ونقص الخدمات الاجتماعية والثقافية والرياضية. وعلى ذلك، تبرز الأحياء الهامشية (مدن الصفيح) والأحياء العشوائية (بدونة المراكز)، وانتشار السكن العشوائي في الضواحي، وتزايد الضغط على المدن العتيقة مما تسبب في تدهورها. وهو ما حصل واقعا، ليتطور المنتوج العقاري والسكني، سابق الذكر، إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة.
وإذا ما تأملنا مليا، في نتائج وانعكاسات تمدين المدن وإرهاقها، فلن نتوقف عند هذا الحد، حيث يمكن الحديث عن أزمة المدينة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسوسيواقتصادي، والبيئي، والتجهيز والخدمات العمومية المختلفة، وكلها أمور متداخلة، يختص بها مجال التهيئة وإعداد التراب الوطني، الذي لازال يئن تحت نزيف اللامبالاة وشح التنظير وعدم الكفاءة وآفة التسييس والإدارة.
إذا كان كل ما ذكر يحتاج، لمساحة واسعة من التحليل والتدليل والمقاربة العلمية والجمالية، فإن العودة إلى أصل المشكل، يوفر علينا متاهات التضليل والاستغفال والتمويه الفاشل، حيث تسكن الحقيقة في الشقوق، وينظر إليها كأنها عين إبرة.
والوجه المقنع لما يسميه عباقرة المدينة والجمال، ب”المدينة المغيبة أو الخفية”، هو ذاك البعد المتقاطع وأصل “الأشياء” وطبيعة تكوينها. إذ المادة تمنح “الوجود” فيها و”الاستسلام لها”، روح التناغم والاصطفاء، ككائنات الصحراء ونباتاتها وأعشابها وأحراشها.
ولهذا كان فرانك لويد رايت، واعيا بميسم “العلاقة بين الطبيعة والحياة العضوية”، وآلتي يراها تظهر لنا بوضوح في كيفية استعمال مواد البناء بكل بساطة.
نعم، استعمال مواد بناء على طبيعتها، هي “صديق مخلص مطيع”، كما يقول. ليس هذا فحسب، بل الاعتماد الكلي عليها، وعلى كيفية صقلها ونحتها ووضعها في المكان المناسب لها. يعتقد رايت أن احترام الطبيعة و موادها الطبيعية يستلزم أن لا يعتدي المهندس أو المعماري أو الفنان على طبيعتها، بأن لا يتلف الحبيبات أو التموجات الطبيعية في الخشب ولا يطمس معالمها ولا وصفاتها وعضويتها الطبيعية، التي هي من صنع الله، بالأصباغ والدهانات الصناعية، وآلتي هي من صنع الإنسان، بل يجب عليه أن يتركها لطبيعتها ليظهر جمالها و ونوعها وطريقة تفريغها وتموجاتها .”
هذه آفة مدينتنا، وغير ذلك، مزيج من غفل أو إنكار أو تعمية؟