في عنوان فرعي مثير ساقه ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ، في كتابهما المشترك “لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟” ـ العنوان الفرعي المذكور وسمه الباحثان ب”العالم هو حاسوبك” ـ يستدرجنا الكاتبان إلى عوالم جديدة، ترتبط بحوسبة المعرفة واختصار الوقت في إدراك نتائجها. ويحدد الباحثان من خلال هذه الطفرة التكنولوجية الحاسمة في حياة الإنسان، طريقة استعمال المعادلات الذهنية الأكثر اندماجا وفعالية لاستعمالنا العالم، من أجل إجراء الحوسبة من أجلنا في التنقل عبر المساحات الضيقة. وهو ما يسهم فعليا وإجرائيا في خلق تكوين للوضعيات، بأنماط منهجية تعكس كيفية اجتيازنا للحقول الت ينحن بصدد التكيف معها.
نظرية “العالم هو حاسوبك”، تحيل بالبداهة إلى محاولة استجلاء مناطق نزوع الصناعات الثقافية والإعلامية الجديدة، وأثرها في الإنسانية وقيمها وثقافتها. إذ المفهوم الثاوي للصناعات إياها، جامعة بين مدارات إنشاء وإنتاج وتسويق المحتوى، تؤطره بالأساس مفهومية “الصناعة”، وهي جزء من نظرية كبيرة كان قد قعد لها الناقدان الغربيان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، باستنتاج تأكيدي، كون وسائل الإعلام كانت لها اليد الطولى، في التأثير سلبا على المتلقين.
ويرى الباحثان أدورنو وهوركهايمر، أن المواطنين بكونهم مشاهدين، أو متفرجين، على العالم المثالي، الذي يتم تمثيله من خلال الإعلانات والأفلام، ينسون أو هم يتناسون واقعهم، وبالتالي يصبح من السهل التلاعب بهم، مع أن ثمة جدل في أن تكون وسائل الإعلام الجماهيرية، قد جعلت من أدوات الترفيه شكلا من أشكال التناظر الاجتماعي، وهو ما يتداخل وتأثيرات سلطة الإعلام في “التوجيه والتربية”.
والوارد هنا، أن الأشكال الجديدة للثقافات الإعلامية والثقافية، كان منشؤها أوروبيا. إذ إننا بإزاء هذا المعطى، كنا ولا نزال نؤمن بأن القطاعات التي تمارس أنشطة تتعلق بالقيم الثقافية أو غيرها، من أشكال التعبير الفني الفردي أو الجماعي، وهي كما تحددها القاعدة القانونية لبرنامج “أوروبا الإبداعية”، وهي ذات بنية صلبة على مستوى التأثير في براديجمات التنمية والمجال. أشير هنا إلى استفادة قطاعات عديدة، مثلا في أعمال المكتب الاحصائي للجماعات الأوروبية (أوروسات)، في إطار الاحصائيات الأوروبية وأعمالها الدقيقة، من خلال تنسيق ومواءمة الإحصاءات المتعلقة بقطاعي الثقافة والإبداع، في حين تتمحور الصناعات الإعلامية والثقافية حول آخر التطورات في سلسلة القيمة، لاسيما عمليات الإنتاج ونشر العمليات الصناعية والتصنيع.
من تمة، يجب التأكيد، على أن القطاعات الثقافية والإعلامية تحظى بأهمية قصوى، في برامج التنمية الجديدة، لدى الدول الديمقراطية، دلك أنها تسهم في ضمان التطوير المستمر للمجتمعات ، وهي في صلب الاقتصاد الإبداعي، حيث إنها، وعلاوة على ضرورتها الراهنة وتأثيرها المباشر على المردودية والجودة، فإنها تتميز أيضا بكثافة المعرفة العالية والاعتماد على المواهب الفردية، كما تساهم في تحقيق ثروة اقتصادية كبيرة. ولكنها أيضا، وقبل كل شيء، هي ضرورية لخلق إجماع حول الهوية والثقافة والقيم الإنسانية.
ويمكن هنا، وتأسيسا على ما تم ذكره، فتح قوس كبير حول مثارات أو إواليات الصناعات الثقافية والإعلامية، كشكل من اشكال البراديجمات التنموية، التي نسميها “إنتاج ونشر المعرفة”. فالقالب المعولم، الذي يمكن أن نضع فيه نظرية الإنتاج ونشر المعرفة في المجتمع، هو نموذج حديث وراهني، مرتبط أساسا بانتشار تقنيات المعلومات والاتصالات. وهي كما عرفها الحكيم باشلار “الإجابة على السؤال”. هذا يعني، أن المعرفة في الصناعة الثقافية والإعلامية، يتم تطويرها وفقا للتجارب المنتجة، وتبعا للحاجيات المبرمجة، حيث يتم نقلها بمنهجية وتدقيق بيداغوجي إلى أفراد المجتمع. كما أنه، يجيب التنبيه، إلى عدم حصر مآلات المعرفة، فهي ليست بالضبط، ما يعادل المعلومات، بل هي معرفة بذاتها ولذاتها، تتغيا التنويع والتلاؤم واستخلاص التجارب، مع التكامل الملهم والاستخدام العقلاني من قبل الفرد في المجتمع المنظور.
ومن هذا المنطلق، يصبح من اللازم، طرح سؤال الصناعات الثقافية والإعلامية، كإدارة جماعية، وكتفكير تشاركي، ينبني على التخطيط والتدبير المحكم، الذي يؤول إلى مجتمع المعرفة كقيمة. وهذه إشكالية أخرى، قاربها المفكر الأمريكي بيتر دراكر، رائيا أن مجتمع المعرفة في منظومة الصناعات الثقافية يعتمد بشكل أساسي على مبدا نقل المعلومات، عندما يتم تجميعها وتأطيرها وتوجيهها. وبالتالي، تتلمس طريقها إلى الانتشار تم التأثير والاندماج.
وبما أن وسائل الإعلام تساهم هي الأخرى، في زيادة كثافة المعلومات، خصوصا ما يرتبط بتقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة والأنترنيت، فإن معظم الأنشطة البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة.
لكن، أخيرا، يبقى سؤال الحاجة إلى التفكير في كيفية إدماج المعرفة في العمل التشاركي، أو الإشراك الفعلي للعمل على مستوى الإدارة والحكامة. وما الحاجة الملحة فعليا، إلى إمكانية تلقي هذه المعرفة ووضعها في خدمة الإنتاج.
يطرح دراكر ثلاث أنساق لتحقيق مقاربة نوعية:
الأول: دمج المعرفة في نظام تمثيلها.
ثانيا: استخدام المعرفة لغرض محدد من قبل الإدارة أو التدبير .
ثالثا: البحث عن الحقيقة، أي استخدام المعرفة ضمن إطار الحقيقة لدى الفرد.
ـ عنوان المداخلة التي شاركت بها، في الندوة العلمية التي نظمها مهرجان امنتانوت للفن والابداع والتراث في دورته 14 والموسومة ب” صناعة الثقافة وتحقيق التنمية الترابية المستدامة: قراءات متقاطعة” يوم السبت 10 غشت 2024.