في مدارات الكتابة، كل تأليف هو لحظة استجابة. استجابة عِلمية لمسار انعطاف في الفكر؛ وقبل ذلك، محاولة اقتراح جواب عن سؤال حارق…هكذا يبدو كتاب باولو فريري “بيداغوجيا المقهورين” La pédagogie des opprimes. يُقر كل الذين طالعوا الكتاب بأننا إزاء كتاب بحمولة معرفية جد قوية ومزعجة جدا لمن يمتلكون وسائل الانتاج والاكراه، لكنه يظل مدخلا أساسيا لفهم ما يعتمل في كواليس اللعبة التربوية في دول العالم.
“بيداغوجيا المقهورين” في الأصل نِتاج ملاحظات ومعاينات مزجت بين سنوات المنفى وخبرات متراكمة من العمل في ميدان التعليم في عدة دول من العالم. وهو أيضا شهادة تاريخية حَيَّة عن لحظة بدت فيها معالم البؤس بادية على كل مداخل الإصلاح من قلب الأنظمة الرأسمالية. ويمكن النظر إليه بوصفه دليلا توجيهيا يؤسس لفلسفة التعدد في حقل التربية، ويؤمن بإمكانية تغيير ترتيب النظام العام للأشياء بالفهم الأنثربولوجي للكلمة.
يمكن أن نقرأ هذا العمل من زاوية العمل النقدي المتسلح بالعمق الأيديولوجي الذي يدعو إلى بناء شروط توطين بيداغوجيا نقدية تسائل الاختيارات البيداغوجية الكبرى، وينهض نحو تسليح الإنسان المقهور بأدوات تتعالى على رؤيته القدرية وتدفعه إلى الوعي بالتغيير.
يستحث فريري المقهورين من أجل الوعي بضرورة تغيير تموقعاتهم الاجتماعية وتغيير وضعهم القدري عبر شرطية تحرير الوعي توجيهه نحو الأفق الممكن. لهذا، شُيِّدَ الكتاب على ثلاثة أعمدة رئيسية ترتبط بالحرية والديموقراطية والنقد. نحن هنا أمام حلقة تأسيسية تكشف عن تربية المقهورين وتهيئهم لمرحلة التحرير. لا تتم هذه النقلة من دون وعي ومقاومة ونضال ضد كل فلسفات التربية التي تعمد إلى تأبيد المواقع الاجتماعية. قد لا نختلف في القول أن الكتاب يحمل تصورا جديدا يقترب من المقهورين، ويحاول أن يكشف عن الأقنعة التي تمارس من قلب حقل التربية عليهم…يتعلق الأمر، ببيداغوجيا بديلة ترسم طريقا لبناء وعي نقدي يُمكِّن المقهورين من تغيير قدريتهم التاريخية.
يتوجه الكتاب إلى كل الذين يحلمون أو يعتقدون بإمكانية تغيير القدر، وبأن أفق العالم الآخر ممكن التشييد شريطة تغيير الشروط، أو على الأقل الوعي بها في مرحلة أولى. وللدفع بهذه الرؤية، يجب تقويض أسس البناء الرأسمالي الذي استندت عليها فلسفات التربية منذ عصر الأنوار…لقد نجحت الفلسفة النيوليبرالية وبمكر فائق أن تستدرج المقهورين للقبول بضرورة المحافظة على المواقع الاجتماعية والثقافية، واستطاعت بدهاء فائق أن تغرس قيم الفشل واليأس والتواكل كقيم يجب التآلف معها والتطبيع معها لأنها تأتي من طبقة اجتماعية محدودة النمو الذهني…
والحق، استعادة أفكار باولو فريري ضرب من الوفاء أو الالتزام الأخلاقي في عالم اضطربت فيه القيم، وارتسم فيه الفصل بين الأخلاق والمدرسة ارتساما واضحا، وتهلل السدى الأخلاقي، وتمايزت فيه الفروقات…يُشبه الكتاب مثلما شبَّهه روبيم ألفيس ب”خريطة الملاحة”. بليغ هذا الوصف لأنه يكشف عن مناطق مجهولة من مورفولوجيا الفكر التربوي؛ ويرتاد مسالك وعرة وغير مستكشفة…لا يتحقق الكشف إلا لمن يمتلك الشجاعة على قول الحقيقة كما هي، ولو انتسجت بالإزعاج.
من هذا المنطلق، لا غضاضة أن نتفهم لماذا انبرى جل منتسبي الحقول التربوية إلى وضع الكتاب خارج الرهان الثقافي نتيجة اختياراته الإيديولوجية التي لا تريد أن يتسلح المقهور بكفاية تغيير شروط البقاء. هنا، يوقظ فريري القدرة على الحُلم بحقيقة أكثر إنسانية، وأقل قبحا، وأكثر عدلا في عالم لن يكون فاضلا دون وعي نقدي يستوعب شروط وجوديته.
الكتاب من حيث زاوية المعالجة صرخة ثورية في وجه ما يسميه فريري ب”بيداغوجيا الاستبداد السياسي”، ودعوة إلى تغيير الأفق. الأفق عند فريري يشترط تشييد حُلم جماعي يؤمن عبره مقهورو العالم من تغيير شروط وجودهم البشري. لا يتحقق الحلم إلا عبر فهم بنية الخطاب. الخطاب في مشروع فريري لحظة تأسيسية لبناء الوعي التحرري.
من بيداغوجيا القهر السياسي.
لا تزال العودة إلى فريري حيَّة لم تشخ بعد في الوسط التربوي. لقد ناضل فريري من أجل مدرسة جماعية تستوعب الجميع؛ وتؤمن العبور للجميع، وتستنبت شروط نهضة تربوية تقتلع الأمية في العالم الثالث. في استعماله للعالم الثالث لا يظهر بوصفه مفهوما جغرافيا، وإنما بوصفه براديغم سياسي تجتمع داخله فئات السود والأقليات العرقية المقصية في كل بقاع العالم. ومسألة تغيير الأفق في مشروع فريري تستدعي التحرك في مساحات غير مألوفة، تبدأ من تمكين المقهورين من تملك الوعي لتغيير ترتيبات الواقع التاريخي. المسألة هنا تقتضي أن يصادف وعي المقهورين شروطا تاريخية معينة في الاجتماع الإنساني.
كان من الطبيعي أن تجد هذه الدعوة مقاومة شرسة من لدن الأجهزة السياسية ذات التوجه النيوليبرالي. في مقامه في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967م شُده فريري من وجود قاعدة للبؤس والحرمان في قلب أعظم ازدهار مادي، وصدم من وجود بيداغوجيا مؤسسة على قيم الاغتراب والتدجين الممارسة على المقهورين. لا يراهن فريري كثيرا على التقنية في التعليم، قد تكون أساسية لكنها حينما توظف في خدمة شيء أكبر. إن اعتقاد أن التقنية شيء أساسي في التعليم هو فقدان الثقة في جوهر التعليم. جوهر التعليم عند فريري هو أن تلتقي التقنية مع الهدف الذي يوطن شرطية التمكين الاجتماعي. والقصد هنا خلق المعنى الذي يزاوج بين النظرية والمنهج. وحتى تتحقق هذه العملية، يلح فريري على أن تستند برامج تطوير التعليم إلى لغة المتعلم وليست إلى لغة الطبقة المتوسطة. بهذا نضمن حسب فريري تطوير كفايتي القراءة والكتابة المتعددة والخطابات المتعددة. واجب على هذه البرامج أن تحترم بعمق الاستقلالية المطلقة للمعلم، وأن تحترم أيضا الهوية الثقافية للمتعلم في سياق اجتماعي وسياسي مندور إلى الاقصاء والاستبعاد. يُؤسس فريري هذا الوعي على نظرة جد خاصة للتاريخ، تنطلق من أن التاريخ احتمال، امكان، وليس قدرية زمنية ثابتة. مهمة التاريخ لدى فريري أن يسعى إلى تدمير البناء الاجتماعي للقدريات التاريخية. في جانب آخر، يشدد فريري على أن المسألة التعليمية هي مسألة أخلاقية بالدرجة الأولى عالم يفرغ يوما بعد يوم من مضمونه، وينسلخ يوما بعد آخر عن أخلاقيته.
يشترط السياق التزاما أخلاقيا وليس إجابات تقنية. لقد كان من أبرز نجاحات منظومة الاقتصاد الرأسمالي أن فصلت المعرفة عن المنشأ الأخلاقي والاجتماعي الذي تشكلت داخله. تتوجس هذه المنظومة اليوم من مناقشة الأخلاق. هناك خوف عميق اليوم من مناقشة الأخلاق بأي شكل من الأشكال.
بالنهاية، حينما نستحضر تاريخ صدور كتاب بيداغوجيا المقهورين Pedagogie do Oprimido عام 1968 في سياق ثورة الشباب في فرنسا علينا أن نلبسه لبوسا ثوريا. الثورية بمدخل بيداغوجي. وحده سياق التأليف ينهض بمهمة تحديد مقصدية الكتاب. ينتقد باولو فريري طرائق التعليم البنكي التي تتأسس على قيم الحفظ والاستظهار وإعادة استرداد المعارف الخامة…لا يمكن للتعليم البنكي أن يُنمي القدرات النقدية عند المتعلمين، ولا يستطيع أن يدمجهم في وضعيات بيداغوجية لحل المشكلات الكبرى التي تواجههم. واضح جدا أن الرهان على التعليم البنكي يسير جنبا إلى جنب مع رهان الحفاظ على الامتيازات والمواقع الإجتماعية والثقافية وسحق المقهورين ودفعهم للاستسلام للقدرية التاريخية وإعادة إنتاج علاقات القهر والاستغلال…