الحلقة الأولى :
شعراء الملحون المعاصرون أصناف ودرجات ، بعضهم القليل اكتسب تجربة ومعرفة وخبرة ، وبعضهم الكثير يكتفي بالتقليد والنشر والأحاديث المتقطعة ما بين لحظة وأخرى ، وفي هذا دليل على تفاوت مراتبهم ، وعند التقييم يمكن أن نصنفهم إلى ثلاثة أقسام كبرى :
الصنف الأول هم الشعراء المُقَلِّدون ، وصفة التقليد هي الصفة الغالبة على ما يكتبون وينشرون ، وجل أسماء الساحة الملحونية المعاصرة تنتمي إلى هذا الصنف للأسف ، وتتحكم فيهم الرؤية التقليدية للقصيدة الملحونية ، فمنهم من يعتبر القدرة على النظم ومحاكاة القدماء أقصى ما يطلب منه ، فيستمر على السير المكرر بلا أية إضافة تميزه ، وتعلن عن هُويته الجديدة وينطلق في تدبيج التصليات ، والقول على نهج القدماء في مختلف الأغراض ، ويتشبه بهم في كل شيء مع وجود فوارق واضحة ، لا تساعده على بناء شخصيته الفنية ، فعندما يتغزل يكتب عشقه برتابة ظاهرة ، تحتفل بمختلف الأسماء وفق التصور والبناء المعروفين ، ووفق الصورة الدفينة في أعماقه ، لأنه لا يستطيع أن يتجاوزها ، أو يتخلص منها ، وليست لديه قدرة إبداعية ذاتية وأصيلة للخروج من عباءة التقليد الجاثمة على رؤيته المتحكمة في نظمه ، ولن يفلح أبدا مَن كان هذا ديدنه لسبب بسيط وواضح لدى المقارنة بينه وبين من يُقَلِّد ، وفي نظري فإن شاعر الملحون المعاصر إذا لم يتمكن من بلورة رؤيته الخاصة ضمن معطيات قصيدة الملحون العامة فإنه حتما سيسقط مهما بلغت حنكته وقدرته على التقليد ، فالشعور ، أو الظن الذاتي فقط لا يخول لصاحبه أن يحكم لنفسه بالشاعرية ، وفي الحقيقة هو على عكس إحساسه ، فما يكتبه يعتبر شيئا باهتا ، ونسخا رديئا ، ونفَسه هو نفَس لا يصل إلى ما حققه الأجداد بسبب الاحتواء البين الملاحظ .
ومنهم من تكون له دراية محدودة بالناحية الإيقاعية ، ويستطيع بحدسه التقليدي أن ينسج على المنوال المُقَلَّد فيوهم نفسه أنه شاعر ، وما علم أن صفة الإبداع في ممارساتها المختلفة هي عامة ، ومتاحة للجميع ، ولكنها لا تصبح وصفا خاصا إلا إذا تفردت في النفس والعقل والكتابة الإبداعية ، وأنا أشفق على هذا الصنف لأني أشبهه بالسكران الذي يتوهم أشياء كثيرة في ذاته أثناء حمأة السكر وعندما يصحو يجد أثر أعماله السيئة بادية على جسده ، وفي النهاية يلامس حقيقته وهي أنه كان خاطئا ، وواهما ، وقد وقع في الإثم .
الصنف الثاني هو الصنف المكتفي بالفطرة ، القابعة فيه ، واللائذُ بها أثناء نظمه ، وهو نوع قريب من الصنف الأول في التوهمات والمزايدات .
الفطرة ضرورة من ضرورات الإبداع بصفة عامة ، وكانت هي المتكأ والعمدة فيما مضى من الزمن ، ولكن ينبغي أن نعترف بأن الفطرة في زمننا لم تعد كما كانت من ناحية النقاء والصفاء والقوة ، أصابها الضعف والاسترخاء ، وتعرضت للتشويش وتلوثت في النفوس ، ولا يمكن أن يُعتمَد عليها بمفردها الآن نتيجة ما قيل سابقا ، ويضاف في الملحون إلى أنها بعيدة التحقق بالمواصفات المرجوة بسبب ضعف ثقافة الملحون الرائجة ، وبسبب الهوة الإبداعية الحاصلة ، والبعد الزمني ما بين الماضي واليوم ، وعليه فمن يركز على فطرته بالأقذار العالقة بها فلن يكون مبدعا ، ولاسيما في شعر وصلنا مكتملا ، وله معالم ومعمار فكري وفني ناضج كما يشاهد ذلك مجسدا في قصيدة الملحون .
والاعتماد على الفطرة بمقهومها السلبي سيقودنا حتما إلى حافة التقليد المُفلِسة ، فمن يُمَنِّي النفس ، ويذوب في وسط عمالقة شعراء الملحون باتباعية كلية وفاسدة سيكون مصير كتابته هو سلة المهملات في أحسن الظروف وإلا ستكون حطبا للنار .
الصنف الثالث هو الخبير المدَرَّب والمعلم ، وصاحب النظرة المتفردة ، وهذا الصنف قليل جدا وجودا وممارسة فيما يروج من أسماء معاصرة داخل ساحة الملحون ، وله شروطه المتعددة والمستفادة من معاني الإبداع ، ومما وصلت إليه قصيدة الملحون على مستوى الأفكار والبناء ، ويمكن اختصارها في العناوين الأربعة التالية :
الشرط الأول هو شرط الإضافة ، ومعناه أن تكون للشاعر قدرة على تحويل المشترك العام ، المتاح للجميع إلى شيء ذاتي متفرد ، قد ولد في سياقه الزمني والمكاني ، فلا ينبغي تكرار ما كتبه الأجداد وبمستوى رديء جدا ، يسيء للكاتب ، ويسيء لقصيدة الملحون ، ثم يتشدق صاحبه ويزعم أنه شاعر ، كان الشعراء القدامى واعين بهذا المعطى ، وكان تميزهم وتكوينهم القوي يشفع لهم في التسابق على مضمار واحد وبإضافات واسعة ، تُستمد من الذات الشاعرة والمُلهمَة في دواخلها ، وهي غير مُقلِّدة في مشروعها الإبداعي ، وسأحاول التدليل على ما جاء في هذا الشرط وما سيجيء من شروط في نهاية الحديث عنها ، واستيفاء المعطيات النظرية الخاصة بها .
الشرط الثاني هو إبراز التطور الحاصل ما بين كل تجربة وتجربة ، وما بين كل شاعر وآخر ، وما بين كل قصيدة وقصيدة ، فالمواضيع المتشابهة أو الموحدة عائق أمام المبتدئ الفارغ ، ولكنها لن تكون عائقا إذا جرت على أياد متمرسة ، وقد خَبِرت دروب شعر الملحون المختلفة .
حصل هذا فعلا ، فكم من شاعر كتب في موضوع الحراز ، وكم من شاعر كتب في موضوع الحجام ، وكم منهم كتب في موضوع التصليات ، والموضوع الأبرز هو موضوع العشاقي الواسع ، فالشعراء فيه لم يكتفوا بالتوافق على الأسماء فقط ، وإنما تباروا حتى على صعيد التجويد والتميز في أدائهم الإبداعي ، ولا فرق هنا بين شعراء كبار ، أصحاب الصفوف الأولى ، ولا بين الدرجات المتوالية منهم ، فالكل قد أبدع وأجاد ، وَبَزَّ الأقران والشيوخ ، وكل مرحلة تنتهي بإضافات كثيرة على مستوى القول الشعري القوي .
الشرط الثالث شرط المتعة : هو شرط أساسي في كل إبداع ، حرص عليه شعراء الملحون بوضوح وتفنن ، فالإبداع لم يقف في تجاربهم عند الشكل أو المضمون ، أو عند الصورة المرئية ، أو رصف الألفاظ بلا أهداف ، وإنما كانت شاعريتهم تتحقق وتحرص على تضمين المتعة المتنوعة في البناء والرؤى ، وهذا الجانب أضحى ضعيفا ، أو منعدما في شعر المعاصرين ، والسبب في نظري هو تواضع معرفتهم بشعر الملحون ، وجهلهم بوظيفة الإبداع ورسائله المتنوعة ، وافتقارهم للشيخ الدال على الطريق المختارة من طرق الإبداع المتعددة .
ولي شواهد كثيرة من شعر المعاصرين يغلب عليها طابع التقليد السلبي ، بالإضافة إلى قِصَر الطاقة الفكرية والفنية الخاصة بشعر الملحون في دواخلهم .
ملاحظة أخرى تكمن في كون إبداع مجموعة من الشعراء المعاصرين إذا كان في موضوع واحد وعبر قصائد متتالية فإنه يكشف لنا عورات أولئك الشعراء بصفة فجة وجلية ، وكلها ترجع إلى الأسباب السالفة الذكر على عكس القدامى ، فكلما عادوا إلى الموضوع إلا وأتوا فيه بما لم يأتوا به في التجربة السابقة ، ولهذا برعوا في الإبداع الجميل المتواصل رغم ضيق تلك المواضيع .
الشرط الرابع هو تحقيق التراكم المتمايز ، ومواصلة المسير ، فلا يمكن أن يدعي الشعر مَن كتب بضع ورقات ساقطة ، وجافة ، وذات امتداد متذبذب ، ومفكك من جهة المعنى والمبنى ، وهذا مفهوم جديد وإضافي لمعنى التراكم خاص بشعر الملحون ، فقد كان شعراؤه وعبر العصور يتزاحمون في مواضيع محددة في العدد ، وضيقة في مداها الفكري والفني ، ومع ذلك يبدعون بوتيرة متواصلة تضمن حصول التراكم المنشود ، وبنفَس فكري وفني متغير ما بين شاعر وآخر ، وأنا هنا سأستشهد بعدد الشعراء الذين كتبوا في موضوع الحراز ، وكلهم أبدعوا وتباروا فيما بينهم ، وبعدد مَن كتب في موضوع العشاقي ، وفي اسم واحد كفاطنة وزهرة وخدوج على سبيل المثال ، وستجد التمايز فيما بينهم واقعا وواضحا ، وهو الوضع الذي بُهِت في شعر المعاصرين ، وطُمِس بسبب التقليد الأعمى ، وضعف الزاد الثقافي المتعلق بالملحون على مستوى الفطرة التي تَكَلَّسَت أدوارها أمام قيود التقليد المُكَبِّلة ، أو أمام المعرفة الملحونية المكتسبة ، فالشاعر المعاصر في عموم الأسماء الرائجة على الساحة لا يستطيع أن يتخطى العوائق المذكورة ، ومن باب اللياقة أتسامح مع بعض الأسماء ، وأعتبرهم شعراء ولكن على نمط التقليد فقط ، وللأسف فالأغلب الأعم مما يُكتَب إذا فحصه الخبير المتشبع بمنجزات الآباء والأجداد فإنه سيراه كالهر الصغير الذي ينتفخ ويحسب نفسه أنه أصبح أسدا .
( يتبع )
ـ أستاذ جامعي – مراكش