الحلقة الثانية والأخيرة :
لنعد إلى مجرى التمثيل لنقف على كل ما قلناه بطريقة ملموسة ومستفادة من نصوص شعر الملحون ، وسأكتفي بموضوعين : موضوع الشمعة ، وموضوع التغزل باسم واحد من أسماء النساء ، وليكن هو ( زهرة ) .
اختياري كما سطرته انبنى على رؤية تقول إن الموضوع الأول ( الشمعة ) هو موضوع صغير مقارنة ببقية المواضيع ، وأن اسم زهرة يتحكم فيه المقياس المذكور كذلك ، والأهم عندي أنني اخترت من الشعراء أسماء تنتمي إلى الصف الثاني من شعراء الملحون في نظري ، على الأقل إن حَكَّمنا في الأمر معيار التراكم ، وكذلك معايير الفكر والفن المختلفة ، وعليه سأمثل لموضوع الشمعة بما قاله الشاعران : عبد الرحمان بن الطاهر ، ومحمد بن الوليد ، ولموضوع التغزل باسم ( زهرة ) بما جاء في قصيدتين للشاعرين : حسن بن شقرون وعبد الهادي بناني ، ولن أهتم بمسألة المتقدم والمتأخر بالمفهوم الزمني بقدر ما سأركز على الصفات الإبداعية المتجلية في الموضوعين .
في موضوع الشمعة يقول الشاعر عبد الرحمان بن الطاهر الدباغ ، وبالمناسبة قال عنه الشيخ محمد دلال الحسيكة في الصفحة : 207 من الجزء الثالث من مخطوطه : ( كان شيخا لأشياخ مراكش بعد الأستاذ الحاج أحمد امريفق…..) :
ابكاك ازعج لخلاك يا الشمعا يكفاك من النواح زدتي مابي .
كيف إينوح جفني اتنوحي فعكاب الديجان
لاش تنوحي وانت فكل جمهور تغنمي ساعت الزهو زهواني .
ما مثلك ملكا أم أيداك ارباب الغيوان
إلى نوحت أنا أبستي هجرتني هيفا امغونا وهواوي .
كانت تسقي لمدام ريقها روحي للسلوان
خلات اخيال اقوي فضمير مرصود على المشاهدا يظهر لي .
فمنامي واليقضا انشاهد فايق غصن البان
لكن اليوم جفات امرسمي وعقيلي مرهون عندها زاوك لي .
كيف انواسي يا شمعت الزهو فدبا لمضمان
وانت ما ضاع احبيب لك ولا محبوبا يا الباهيا عِد لي .
كيف اعليك أنا عدت قصتي فرمز العنوان
( ولعله يقصد حربة القصيدة وهي ) :
غنمي غايت لفراح يا الشمعا ابنت الطميم لخلاك ازهيي .
نبغيك اتعيدي سبت البكا من قادم للئان .
ويقول محمد بن الوليد وهو ( الشريف العلوي الحسني …..الدرعي أصلا التنسيطي مقرا ) هكذا حلاه الشيخ محمد دلال الحسيكة في الجزء المذكور من مخطوطه ، الصفحة : 472 ،
يبدو أن الموضوع موضوع الشكوى ومقارنة الأحوال بين حال الشمعة وحال المحبوب قد تغير هنا مقارنة بما كان عليه عند الشاعر عبد الرحمان بن الطاهر ، هكذا يسير عليه الكلام في القسم الأول من القصيدة ، ولكن البناء العام للقصيدة يطرح المواقف ذاتها ، أي مقارنة أو تجلي فعل البكاء وانتقال مدلولاته ما بين الإنسان والشمعة ، يقول الشاعر محمد بن الوليد مخاطبا الشمعة ، ومتسائلا عن سبب بكائها أمام بكائه :
علاش يالشمعا كاتبكي مالك
عيدي لي واشن سباب ابكاك
يقول الشاعر في القسم الأول من القصيدة :
يا من اهواك هيج وجدي وغرامك
فقلب من اسباك دا البكا وهباك
وعلاش دا البكا يبكي من لا شافك
واللي ما شاهد امحاسنك وبهاك
أنت اللي زهيت بالحق فزمانك
وتزهيتي من على حسود اكداك
اكما ازهات بك الناس أزهَّاتك
ضحكي وتزهاي عند من زهاك
ربي اعطاك لبها ونصر احسانك
وتباها لهل السرور حسن اضياك
فبساط كل زاهي شعشت اقمارك
وهزمتي جند الغياهب ولحلاك
ورضاتك السلاطن وقبلت ارضاتك
وتبرزت على امحبتك ورضاك
فمراتب ازهو جعل الله امقامك
وسبق لك العز في أول منشاك
بك الكرام تعظَم وتعظَّم شانك
لنك ملكا وكلشي واتاك .
إنها المرتبة الإبداعية التي نسعى للحفاظ عليها ، وننشد صيانتها من كل ادعاء مغرض في زمننا ، فالموضوع الجامع بين الشاعرين المختلفين في الزمن والمكان ، والقريحة الشعرية هو موضوع ضيق جدا ومع ذلك أبدع فيه الشاعران المذكوران بالرغم من تلاقيهما في الوزن ( لقياس مبيت ثنائي ) وفي بعض الألفاظ كلفظ ( الزهو ) ومشتقاته المختلفة ، والسبب في نجاحهما يعود إلى فطرتهما السليمة ، وإلى معرفتهما بثقافة الملحون ، وتميزهما في النظرة الذاتية ، واستقلالهما في المقاصد الفكرية والتصورية للموضوع ، وما قيل عن الشمعة يستشهد به في كل المواضيع المكررة في شعر الملحون .
الموضوع الثاني يتعلق بالشعر العشاقي ، وبالجزء المتجه إلى ذكر الأسماء ، واخترت اسم ( زهرة ) على اعتبار أنه قليل الرواج مقارنة بالأسماء الأخرى ، بالإضافة إلى اتباع مضامينه من خلال شعر شاعرين هما : الشاعر حسن بن شقرون والشاعر عبد الهادي بناني ، وكلاهما عندي من الدرجة الثانية فيما يخص خصلة التراكم ضمن درجات شعراء الملحون المتعددة .
يقول محمد دلال الحسيكة عن الشاعر حسن بن شقرون الذي يجعله ( من فحول شعراء مراكش في عهد ازدهارها بشعراء الملحون في أواخر القرن الثالث عشر إلى الربع الأخير من الرابع عشر ، كان رحمه الله إنسانا وقورا عند الشعراء والحفاظ ، وكان تاجرا يبيع التوب في القيصارية ، وكان من جلساء السلطان المولى عبد الحفيظ…….مخطوط محمد دلال الحسيكة ج : 3 / 159 ) .
ويقول الشاعر متتبعا لمنحوتات اسم ( زهرة ) على مستوى اللفظ والمعنى :
زهرا دوحت لزهار – زهرة زهو التذكار – زهرا ما يشبهها أبها اقمر – زهرة ابها كل ضي شار ابهاه من نور .
زهرا امهرت لقفار – زاهرا رايت لكحار – زهرة بنت الفراح مشتهر – زهرا قوت القوت طيب مسك الحبيب المدكور .
زهرا اعقد فتدخار – ما يفديوه له تجار – زهرا ما نظر مثلها ابصر – زهرا من راها يقول هد هي حور الحور .
أما الشاعر عبد الهادي بناني وقد عاش في أوائل القرن الرابع عشر كما يثبت ذلك الشيخ محمد دلال الحسيكة (المخطوط ج : 3 / 265 ) فقد صار على نهج ذكر المحاسن الجسدية انطلاقا من اسم ( زهرة ) يقول :
أيا سيدي وضفاير السوالف نحكيها لون قار .
يهوا وعل القد الباهي لحفيل ابزينهم يسلب لعقيل .
والجبين امتل بدر اكميل ، ساطع اشعيل ، يضو اشحال من ميل ، والغرا كاتلوح كالمشتار .
احواجبك تمحي تار ، والعيون ايسحرو هاروت ، والشفار اصوارم يوم الوغى اتجور .
أتاج الباهيات زهوا بصار ، رف رف يا خنار ، لا اتعذب قلبي بهواك يا هلال الدار يا لا لا زهور .
هكذا يتبارى الشعراء الحقيقيون فيما بينهم وإن اختلفت الأمكنة والأزمنة كما قلت ، فكل شاعر هو شاعر برؤيته ومعرفته الملحونية ، وتجربته الإبداعية في مشواره الطويل أو القصير .
ضيق المواضيع ، وتكرارها عند الشعراء لا يخيف الشاعر المتمرس حقا ، المستقل في رؤاه الفنية ، والمتوفر على مقومات شعرية حقيقية .
هنا أريد أن أنبه على شيء فارق قد حصل في مسيرة شعر الملحون ، فيوم كان الازدهار ، وكانت ( الصبا ) وساد ( الرخا ) بتعبير الملحون لم يكن للتقليد مكان ، لأن كل شاعر كانت له بصمته ، وكان يتعارك مع أقرانه ، ويسعى للإتيان بالأفضل الأجمل ، ولذلك كثر الشعراء ، وحازوا على أوصافهم باقتدار وبشموخ وسط الضيق الملاحظ على مواضيع شعر الملحون في وقتنا الحالي اختفت المسلمات السابقة ، وطال زمن التقليد ، وفحش تأثيره حتى عُدَّ من المكنون المطلوب ، كما ساد الضعف ، ومس جميع مناحي الزاد المعرفي الملحوني ، واكتفى شعراء اليوم بالموهبة المحدودة ، والتقليد السلبي المبني على شيء من الإدراك المُشَوَّشٍ فجاءت أشعارهم كمثل بضاعتهم وما يشوبها من نقص وضبابية وهشاشة منتشرة، وملاحظة على كافة المستويات .
وباستطاعتنا اليوم أن نبدل هذه الرؤية ، وننهض بشعر الملحون من جديد ولكن بشروط أكيدة ، وبأهداف إبداعية صرفة ، تبتعد عن أمراض الذات العليلة وهفواتها المتكررة ، ويمكن إجمالها في الآتي :
1 – مطالعة جميع دواوين الملحون المتوفرة في وقتنا برغبة الاستفادة من تجارب شعرائها ، وثراء تجربتهم الشعرية .
2 – تحديد المشرب الفني المناسب للتطلعات الإبداعية انطلاقا مما قرئ لنبني عليه المسار الإبداعي المأمول والمُحَبَّب للنفس المبدعة .
3 – بقاء الاتصال مستمرا مع قصيدة الملحون ، فمن شأن القراءات المتكررة أن تكشف عن ملامح قصيدة الملحون كشفا جليا ، وأن ترسخها في الأذهان بأوصافها الصافية ، وأنا أقول بأن كل قراءة جديدة لا يمكن أن تشبه القراءة القديمة ، وأن حجم الاكتشاف والمعرفة سيكبر مع توالي القراءات .
4 – التقليل من آفة التقليد الضيقة المنتشرة بين شعراء اليوم ، وتحديد زمنها ، واعتبارها مرحلة عابرة ، وعدم مسايرة خداع الانبهارات الأولية المتواضعة ، والتسرع في تحلية النفس بألقاب لا تستحقها .
5 – مسألة هل هذا الشخص أو الأشخاص شعراء أم لا ، لا يمكن أن يُكتَفَى فيها بما يروجه أولئك الأشخاص عن أنفسهم ، أو في دائرة الأصدقاء والمعارف والجمعيات التي تتأسس لغرض المدح والتبجيل على غير أسس واضحة ومعقولة ، فالشاعر هو الشاعر الذي يعرف أنه شاعر ، ويدلل على ذلك بأشعاره وتجاربه الإبداعية المختلفة ، ويعترف له الجمهور بشاعريته ، وتدوم تلك الشاعرية متقدة وجذابة لدى كل الأجيال وإن ابتعدت المسافات كما هو حال شعراء الملحون الكبار من أمثال المغراوي والمصمودي وامثيرد والغرابلي والدمناتي….. وغيرهم ، أما مَن يدعي الشعر ولا يكتسب جمهورا جديدا ومتنوعا ، ولا يشهد له بذلك البعيد قبل القريب ، ويكتفي بصوت نفسه وبأصوات قطيع جاهل من الأتباع والأصدقاء ، ولا تزداد دائرة انتشاره في الساحة الإبداعية ، ولا يُعرف لا في حيه ودشره ومدينته وبلده… فهذا كله من صنع التفاهة التي ابتلينا بها في زمننا ، وانتشرت بسرعة أكبر من نار الهشيم المشتعل بفعل الريح فيما بيننا .
وسيبقى الأمل قائما ما دمنا أحياء على استدراك الأمور ، وإعادة التصحيح ، وإصلاح ما تم إفساده بإيعاز من قواعد الكون الأصيلة ، ومن ضوابط الفنون المتوارثة والمحفوظة بواسطة تجارب الإنسان الإبداعية في حقيقتها وأصالتها .