وجود الفرد والجماعة…….ما مفهومه ؟
عنوان رَاوَد مخيلتي من جديد بسبب معركة طوفان الأقصى المباركة ولكن ترسباته قديمة جدا ، صَحَت بفعل الأحداث والوقائع المصاحبة للاغتصاب واحتلال أرض فلسطين ، كما كانت دائمة الحضور بظلالها إزاء كل ظلم وطغيان مُورِس ويُمارَس على الشعوب والأمم .
مستندات الإنسان الوجودية تُلتَقَط من زوايا متعددة ، وتُلتمَس في أحوال تعاظم الإنسان مع مرور الوقت ، وتَجَبُّرِه المستمر ، ومحاولة قلب نواميس الوجود المختلفة انطلاقا من أهواء الذات وإن كانت عليلة وفاسدة .
المظهر الأسمى لهذا الموقف المُتَغطرِس هو محاولة الإنسان الاكتفاء بذاته ومتطلباته الخاصة ، وتقديمها على شكل مُسَوِّغ تام وكامل ، واتخاذها تعليلا لا يشوبه أي خطأ أوتقصير ، ومعيارا لما ستؤسس عليه الحياة حتى ولو كان زورا ، وتنطعا ، ومناصرة للظلم ، أو ساقه كل ذلك إلى الوقوع في أحوال التَشَفِّي والخِذلان للصديق والأخ والجار حين الشدة والفِتن .
وعلى هذا المنوال صار الإنسان وفي كل عصر يخترع معتقدات خاصة ، وأفكارا جائرة ومتناقضة مع وجوده ، ويقدمها على أنها وسيلته للعيش الآمن في داره ومدينته ووطنه ، ولا تَرقَ به حياتُه لممارسة القيم الحقيقية التي ترفض الظلم ، وتناصر الضعيف ، وتغيث المحتاج ، وتعلي المعروف ، وتنتصر له في وجه كل منكر ، وتتلاقى نفسه مع كل نفس مرت ، أو ستمر صانعة للوجود المتزن ، ومدافعة عن الإنسان ومبادئه الضامنة لمعنى الوجود المبني على العدل والإنصاف ، والوقوف في وجه كل زيغ وَفَلَتَان .
مرة تحاورت مع بعض الأصدقاء ممن يرتضون الارتماء في حضن الآخر ، واعتباره الخلاص من كل المشاكل ، دون أن يلتزموا بالمرور على ممر الفحص المميز لمعنى الصديق والعدو تبعا لمفهوم الوجود الفردي والجماعي ، ولم ينتبهوا للتعارض الحاصل على أرض الواقع القائم ، أو الواقع بمعنى التاريخ الطويل ، ووقائعه التي تكذب كل ما يُسمَع من دعوات الانفتاح والحرية والتعايش وغيرها من الشعارات المفروضة على الضعفاء المكلومين بِغَصب وعُنجُهِية ، وقوانين الضغط الخارجية .
ويستطردون في سرد تبريراتهم الواهية والخانعة للأعداء لأنهم لا يملكون خيارا آخر ، ولا يجيدون سوى لغة الإذعان نتيجة ضعفهم الفكري ، وتمسكهم ببهرجة الحياة الزائلة ، وقِصَر نظرهم وأيديهم ، وافتقادهم لمقومات الوجود المتكئة على خلاصات الثقافةالفردية والجمعية ، والغريب في تبريراتهم المتعددة أنهم يتمسكون بالحاجة النابعة من الأحداث ، وبادعاء جني أهداف الخير والتقدم والتطور على صعيد القضايا المختلفة وفي زمن قصير ، والأسوأ هو الذي يتحصن بفوائد ذاتية ضيقة ، تخص أفرادا من القلة المسخرة للتمثيل والترويج لهذيانهم باسم قيم السلم والحرية والرخاء….. وغيرها من الشعارات البراقة .
والحقيقة المتجلية للعيان أننا لم نََجنِِ من كل تلك التنازلات سوى الخيبات والهزائم المستمرة ، لم تتحرر بواسطتها أرض ، ولم يحصل لنا تقدم على جميع المسارات المرتبطة بالحياة ، ولم تعد لنا عزة ولا هيبة بين الأمم بإستثناء ما يسمحون لنا به في إطار تحقيق مصالحهم ، وتحصينها من أي مس منتظر .
قلت لهؤلاء الأصدقاء إنكم لا تفهمون معنى وجودكم الفردي والجماعي ، فإذا اختصرتموه في مسايرة مرادات الأعداء ، واقتصرتم فيه على ذواتكم ، وما ستحصلون عليه من مُتَع الحياة فإن زمنكم هو زمن قصير ، ولن يكون له أي أثر بعد انقشاع الغمة ، أو حضور سنوات العجز ، والاختفاء والموت ، وفي النهاية سيزوركم الشعور بالخوف والخطأ ، وصحوة الضمير المتأخرة والعاجزة عن الرجوع بالزمن إلى الوراء .
اقتصار مفهوم الوجود على حِقبة زمنية قصيرة ، والتصاقه بالجسد ومطالبه يعتبر من أكبر الهلوسات التي عشنا في ظلالها ، وأثرت علينا بشكل سلبي ، وجعلتنا رهائن في يد الآخر ، وفيها ما فيها مما يقوض مفهوم الإيمان والدين والمبادئ ، بل فيها من أفعال الإنسان مما يتناقض مع التدبير الإلهي المتحكم ، وفيها شيء من العقاب الدنيوي الأولي ، يمارسه الأفراد المستعبدون على ذواتهم ، وعلى غيرهم بقساوة ، ويتخذون منه مظهرا زائفا ، يُلَوِّحُون به للدلالة على تحضرهم ، وانخراطهم في مسالك العصر ، والحقيقة الماثلة أمامهم ، والمستفادة من أفعالهم وإحساساتهم الصحيحة تقول إنهم مسخرون وعبيد لأهوائهم ، وأهواء أسيادهم ، تنخرهم قيم الارتزاق والصعلكة ، ولا يرون إلا ما يتعلق بجني الأرباح ، والوصول إلى المناصب والمنافع المادية الآنية ، يمارسون كل ذلك بعجرفة وتبجح وهرطقات شفوية ، يجهلون معانيها الفكرية ، والتاريخية ، ويصطنعون لشخوصهم المزيفة درجات ومقامات ، ونعوتا فضفاضة وكاذبة بين الشعوب ، والمؤكد الملاحظ على مسرح الحياة أنهم في ذل وخِزي وهوان .
الزاوية الثانية هي الزاوية الدينية ، وينبغي أن نُدخِلها في الحُسبان والتقييم لوجودنا على مستوى الفرد والجماعة ، وسأقتصر هنا على التذكير بمضمون آيتين كريمتين ، تحدد لنا معشر المسلمين بعض الأسس الصلبة لمعنى الوجود الفردي والجماعي الخاص بنا ، وسأترك التفصيل لكيفيات الانتصار وركائزها الظاهرة والخفية لمقال آخر سأكتبه في المستقبل القريب بحول الله تعالى ، قال الله تعالى في الآية الأولى : ( وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ – البقرة : 120 ) وقال في الآية الثانية : ( أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ – سورة الأنعام : 89 ) .
الآيتان تتحدثان عن حقيقة وجودية لن تتغير وهي أننا نحن المسلمين لن يرض علينا الآخر من اليهود والنصارى إلا بالإذعان لقوانينهم وشروطهم الثقافية والفكرية والسياسية كما هو مشهد وجودنا اليوم وفي الماضي والمستقبل ، وكلُّ مُهَروِل في اتجاههم هو من هذا النوع ولو نافق نفسه ، ونافق غيره من خلال التبريرات التي يسوقها في أقواله ، وتتناقض بما يشعر به في دواخله .
الآيتان كذلك تنبئان ببشائر دائمة بدوام الإسلام والمسلمين بنخوتهم وعزتهم ، وضامنة لانتشاره وسيادته على كل بقاع الأرض ، بالرغم من كل العراقيل والدسائس ، والتفاوت في الإحساس ، والممارسة الصحيحة ، والتحلي بالقيم الواجبة ، وبصدق الانتماء……فقد تكون خيانة هنا ، وقد تكون صحوة واعدة هناك ، وإذا فَرَّط الخانعون ، وخضعوا لضعفهم وهوانهم ، وفضلوا الدنيا على الآخرة فإن في أماكن أخرى رجالا ونساء من أهل الله وأوليائه ومجاهديه الذين سينوبون عن الأمة كلها ببسالتهم ونهوضهم بالمهمة الموكولة إليهم ، والمتمثلة في المحافظة على بيضة الدين والإنسان ، وأجرأتهما المتواصلة بين البشر : (…فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ) هو توكيل رباني حقيقي ودائم ، ولنراجع تاريخ المسلمين لنقف على هذه الحقيقة بوضوح ، فالمناطق الإسلامية المختلفة تتبادل قيم النصر والفخر ، ووقائع الخزي والهوان طيلة حِقب التاريخ الطويل .
مَن لا يرَ في الحياة إلا نفسه ، ويقيم وجوده على المحصول المطلوب والمرتقب مكافأة له على تزوير مواقفه الحياتية ، لن يكون له انتماء ، ولن يشعر بالفواجع أو المُتَع الجماعية ما لم تَجُد عليه بما يريد ويتمنى ويشتهي .
مجموعة من المواقع والأقلام النشيطة في حقل الإعلام والتواصل ، والنشاط الفكري بصفة عامة أصابها الذهول مما يجري الآن على الساحة الفلسطينية بسبب معركة ( طوفان الأقصى ) وبعضهم خَرِس ، وتجاهل ، واختفى ، ولاذ بالصمت المخزي ، واستمر في ممارسة نزواته المضرة باسم التفكير ، ولم يدرك أن مواقفه تفضحه ، وهي تعبير صريح ، وكاشف عن الفراغ الروحي والفكري الناتج عن الإحساس بفقد لحمة الانتماء إلى الأمة روحا وفكرا ، وبذلك عمت تنازلات الإرادة والأعمال وتغلبت على وسائل الإثبات ، وعوامل الاندماج والتفاعل المتمدد على طول تاريخ الأجداد والآباء ، وبدا بعضنا وكأنه لقيط من لقطاء الوجود ممن لا أصل ولا دين له ، وما أكثرهم في وقتنا للأسف الشديد .
لا أخش على فلسطين من مثل هؤلاء الضائعين التائهين ، فهم في وضع الجهل ، تَلُفُّهُم ظلمة الليلة الحالكة ، وتمنعهم من النور المُسعِف على الرؤية الصافية الصحيحة ، والفلسطينيون هم على أبواب الانتصار النهائي باسم الإسلام ، وموعدهم المنتظر قريب الحضور ، وشمسهم آخذة في السطوع ، وبعثِ أمل الدفء والاطمئنان في النفوس وذلك لسببين أساسيين : السبب الأول أنه وعد الله المنتظر ، والصهاينة أنفسهم يتكلمون في منتدياتهم ومراجعهم الفكرية الرائجة على ما يسمونه ب ( الخراب الثالث ) القادم وقد أخذت مطالعه تتجمع في الأفق .
السبب الثاني هو اعتماد الفلسطنيين على أنفسهم في المواجهات الجديدة ، فلم تعد لهم ثقة لا في دول ، ولا في منظمات عربية وغير عربية ، ولهذا سيحالفهم الفوز في الأخير لأنهم اكتسبوا الشعور الحقيقي الذي سيُمكنهم من الانتصار النهائي كما مَكَّن جميع شعوب العالم المُستَعمَرَة من الحرية والاستقلال .
خشيَتي تتصل بالصنف المذكور الخانع في هوان وضعف ، وسرعة مروره من الحياة بلا أي أثر يُذكَر ، ويُحسَب لصالحه ولو كان على مستوى الإحساس القلبي ، وسينقضي مشواره الوجودي بلا تحقيق أي شيء يستمر ، ويُكتَب على صفحته كذكرى جميلة ، يلتئم بواسطتها مع الأجيال الفائتة والمقبلة ، وقد تكون مواقفه المساندة لقوى الظلم والطغيان بدوافع ذاتية ضيقة – ستزول حتما بعد أن تُسبب له غُصَّة أزلية، تشعره بالإذلال في دواخله وفي وجوده الحقيقي – تكون تلك المواقف الخانعة سببا لوابل من اللعنات التي ستصاحبه حتى ولو خرج من هذه الحياة ، وستعطي للأجيال المقبلة فرصة ذهبية وسهلة للتمييز بين كل إنسان وآخر انطلاقا من الهوية التي عاش تحت ظلها أثناء الحياة وبالصوت والصورة ، وهو ما نمارسه نحن مع الأجيال الماضية ، فلدينا قواميس زاخرة بألفاظ الخيانة والعَمَالة والنذالة والخنوع…..وكم من لاعب مزور كان معنا ، ويُقَدَّمُ لنا على شكل بطل شجاع ، ومناضل شريف ، عندما يعجز أو يختفي من الساحة تنهض ذكراه مقرونة بالسوء والأوصاف السلبية ، وهي حقيقته التي تجلت بعد أن انتهى زمن اللعبة ، وأُسدِل الستار عن آخر فصول المسرحية الوجودية المزيفة .
فانتبه يا أيها الذي يرى نفسه فقط هي الجديرة بالحياة ، ولا يصاحب إلا شِبهه في القبح ، ولا يناصر إلا القوي الظالم ، ولا يتحرك إلا لتشجيع وإشاعة الزيف والمكر والخداع طمعا في مزيد من الرغد والنعيم…..انتبه فإن الترحيب بك ، والسماح لك بالانتماء إلى الزمرة الطائشة المسيطرة لن يتم إلا إذا تنازلت عن كينونتك ، وقدمت فروض الطاعة كما ينبغي ، واعلم أنك في مهمة مؤقتة معهم ستنتهي لا محالة ، وإذ ذاك سيرمونك ، ويأتون بغيرك ممن يتقاسم معك الخِسَّة ذاتها ، أو يتفوق عليك في مضمار النذالة والخيانة والطعن من الخلف ، ومن باب التذكير أشير وأؤكد على أن الحياة تملك من الأدوات ما سيُمَيَّزُ به كلُّ فرد ، وكلُّ جماعة ، وسيكون الكشف عن كيفية مرورك الوجودي هو ما سيصحبك ، وتُعرَف به ، وتستمد منه ماهيتَك الوصفية في الحياة وبعد الممات ، وسترى نتيجته السيئة بأم عينيك ، وستعيش مرارتها بمفردك ، وستكون من النادمين عاجلا أوآجلا .
أستاذ جامعي – مراكش