ذكرت ذلك الشيء الذي تحدث عنه الكاتبون في كتاباتهم، ومجده الأدباء في سيرتهم ونقشته الأفكار والذكريات وشما على صدر الأيام، وعجبت لكونه الصدى الوحيد الذي لا تنال منه أصداء السنين، والجوهر الباقي الذي يتردد في صمامات القلب المثخن بالجراح، إنه طيب الأمومة الذي نشم في مزهريته ريح الطفولة وزمن البراءة الأولى..
ذكرت شيئا مثل هذا في غفوة حلمي، فأنعشني وحرك سواكني وهيج الذكرى في جوانحي،
ذكرتك مرارا يا “أم الكاتب” وذات مرة ذكرت أنني كنت ابكي معك قرب التنور وأنت تسرحين التبن تحت فرن الخبز وتنشجين، وانا لا ادري لماذا كنت تبكين؟ لقد كنت حينها صغيرا، ولكن ها أنا قد كبرت حد القسوة من العمر، ووجدت نفسي أيضا وحيدا أبكي، وأنت لست معي كي تمسحي وجنتي وتسأليني…
إن ذكراك جعلتني استنشق زمني الراحل مارا في مساماتي مثل عبق العشب على الطريق، حين تصير الأرض جنة الأحياء، وأنا أمر من حقول القمح بقريتنا، شارد الذهن كأن عالما جديدا يحتضنني، كانت صورتك لا تفارق خيالي ودموعي تسح من مقلتي وتبلل ثيابي..
كل الذين كتبوا من أجل أمهاتهم الغائبات عن شمس هذا العالم، مثلي، كان الدمع يسابق الحبر على أوراقهم… آه كيف عشنا في عالم غاب عنه دفء الحنان الأمومي وعطاء ما تهبه الأمهات بسخاء الغيم وعطاء الارض…
كم كنت بطيئا هذه المرة، فقد راودتني الرغبة وخانني الذوق. لكنني تذكرت هذا الصدود المجافي الذي لا اقبله وانا أحاول مرارا وكلما حاولت، اجد الصدود من قلمي، والممانعة من دواتي ..
لقد صرت كبيرا يا أمي ورغم ذلك ما زلت ابكي خلف الباب، كأنك ما تزالين هناك تنظرين إلي من شقوقه الخشبية..
ها قد مرت الأيام تباعا وسراعا، وانتهت كثير من الأحداث إلى مصيرها المحتوم ، وتقلبت وقائع الليل مع النهار وتصارعت فيما بينها، وانتهى بها المطاف متعبة في بركة النسيان، ولكن هذا الشيء الجميل الذي يبعث الضوء في مسيرة العمر ويأخذ بتلابيب الأدباء ليدونوه في سيرة الأمهات، يضل أبدا يومض في بؤبؤ العين ويشع من بعيد، نجمة في الصباح، تسلم الليل إلى النهار، وتسلم الأيام إلى بعضها.. وتمضي الأيام تباعا وتنصرم الليالي، ويتقادم الموتى تحت القبور، ولا يبقى من الوقت سوى ما خطته رؤوس أقلام على قرطاس الزمن.
الذكرى تشكل الذكرى والأيام تلد الأيام، وكثير من الأحداث توارت خلف ستار النسيان ولكن ذلك الشيء الذي يؤلم القلب ويوخز العظام ويدمي العين، ما يزال يحفر بداخلي كهوفا من الحزن وممرات من الأسى الدفين. كل الصور تلاشت من ذاكرتي بفضل جريان السنين والعمر، وانا كما عهدتني اسخر من الحياة والأحياء ضاحكا ملئ فمي وباكيا حد النشيج المدفون ومحزونا لوحدي، وكل ما اقترفته في دفة العمر يتلاشى ببطء في ضجيج الأيام وصخبها، وكل وقتي الآن، تفرق بين مواعيد الأطباء السخيفة وزمن أقضيه على منصة الذكرى، ابحث عن ثقب يتنفس منه الهواء.
كل ما سبق في سلسلة تفاهاتي اليومية وما جمعته البلاهة القديمة، فرقته الأيام، وانتهى كل شيء، ونسيت كل شيء، إلا أنت يا أمي، فأنت ما تزالين هنا تملئين كل الزوايا تتحدين صمتي وصدودي..
فأنت أنت كما كنتي،
ما تزالين تتمزقين اربا تحت صرخات العمر وغضاضة الايام، وما يزال حطامك الصامد ينعش ذاكرتي بالبكاء الطفولي حين كنت أمدد أطرافي على جسدك المختزل، واترك ظهري تستبيحه الريح.. آه يا أماه ما أقسى الريح التي كانت تأتي من شمال الوقت، إنها كانت تهزني مثل غصن ضاقت به الجذوع وتبرمت به الغابة، ورمته الأشجار أرضا ليلتقطه الحطابون..
أتذكرين يا أماه..؟ فأنا أذكر حين لا تذكرين شيئا، أنني ابصرت على قارعة الطريق امراة في بداية العمر تجر خلفها رتلا من الصغار، وتغادر ليلا نحو المدينة الكبيرة..وها قد مرت الأيام كثيرة على صباحاتي الأليمة، ولم اعد أذكر منها إلا يوم أخذتي بيدي الصغيرة وسلمتني لرجل طيب القلب، أخذني إلى المدرسة وسلمني بدوره إلى المعلم. اذكر اليوم الأول الذي ولجت فيه بوابة القسم وقابلت رجلا ببزة بيضاء وبيده مسطرة عاجية يلوح بها في الهواء، فارتعدت فرائصي خوفا وكدت اعود ادراجي. لكن بعد أيام أصبحت المدرسة مكاني المفضل، وراقني كثيرا أنني كنت اجلس أول الطاولة واتهجى حروفا بالكاد افهما. ثم تصرمت الأيام وأحببت هذه المنشأة العجيبة التي ما زالت تقبع في ثنايا عقلي بهيئتها الأثرية القديمة التي اندثرت من جغرافيا المكان. مرت الأيام تلو الأيام واخذتني الدروب نحوها، وواصلت الطريق وحيدا، إلى أن أمطرت الحروف الصغيرة في دفاتري وصارت غيما يحمل الخصب إلى العالم..
تذكري يا أم ” الكاتب” ، أنني كبرت ولم اعد صغيرا ، وما زلت أختفي وحيدا خلف الباب لأبكي واداري دموعي كي لا تفضحني. لقد تبدلت سحنة الأيام وهجر هذا العالم البارد من نحب، وسافر آخرون وخان اخرون ، حتى من كنتي تظنين، أصبحوا بالنسبة إلي غرباء وأصبحت كما كنت غريبا وعابر سبيل وقد انفصم عقد الروابط.. وهاأنذا اقف وحيدا خلف الباب وأبكي وأنت لستي هنا يا أمي..
….عمتي مساء” أم الكاتب”
سلام لك من حروفي الصغيرة والكبيرة، ومن اشجاني ووحدتي، وبرودة الايام التي تأتي .. وسلام لك ايتها الراقدة في سكون الابدية.. هذه رسالتي التي لن تصل اليك ابدا، فأنا انثرها على بساط الريح إلى حيث لا توجدين..
ملاحظة:
انا لا اكتب نصوصي إنما انزف فوق الورقـ ..