هذه ثنائية تعبر عن الإنسان ومواهبه وتفاعله مع وجوده منذ البداية وإلى النهاية .
والمقصود بالموسيقى هنا كل قالب فرجوي توصل إليه الإنسان بصيغة تجمع ما بين الفكر والآلة وملامح الجسد ، شريطة أن يجد فيها نغمه ونشوته وفرحه ، وأن يكون لها دلالات وظيفية محمودة ، وأن يصبح من الدلالات الثقافية والفنية التي تعبر عنه أصدق تعبير ، وتبث أحلامه وآماله وشكواه ، وتطمح لتحقيق معنى من معاني الخلود الإنساني المرجو .
هذا الكلام توقد في ذهني حين سمعت أحد المذيعين في إذاعة خاصة يسأل ضيوفه عن مناسبة وفحوى كلمات أغنية مجموعة لمشاهب : ( بغيت بلادي ) وكانت أجوبة المستمعين في عمومها مبهمة وناقصه ، وبقيت متتبعا للبرنامج طيلة الطريق ولكن لم أحصل عن الجواب ، ولم يَبُح به المذيع ، لأنه أرجأه إلى حلقات قادمة من البرنامج .
هنا رجعت بي الذاكرة إلى هذه الثنائية الجامعة بين الموسيقى والغناء بالثقافة في شموليتها المتحكمة في الإبداع وتنويعاته العامة والخاصة .
وتذكرت كذلك أن بين الثنائية المذكورة علاقة وطيدة ، فكل تعبير موسيقي ينتمي بالضرورة وبمعنى من المعاني إلى ما هو ثقافي ، فالدوافع ، والذوق المستعمل، والمقاصد الفكرية ، والتأثيرات الجمالية المستفادة من التناغم الحاصل بين مكونات الفعل الموسيقي ، جميعها توحي بمفاهيم الثقافة والإبداع .
وبطريقة تخمينية حاولت أن أتبين ما قلته في مضامين أغنية مجموعة ( لمشاهب ) المذكور عنوانها سلفا ، وقلت : إن المجموعات الغنائية التي ظهرت في المغرب انطلاقا من بداية سبعينيات القرن الماضي قد تحكمت فيها معطيات تكاد تكون واحدة وموحدة ، أهمها أنها جاءت بلون جديد على مستوى الأداء ، وكانت تتكئ على فعل الغناء لتمرير مواقفها الرافضة للواقع ، بل والمنددة به ، وتطمح إلى تحقيق رؤية مستقبلية منشودة ، ومحتويات أعمالها تستقى من أحاسيس الجماهير الطامحة إلى الحرية والتقدم والديمقراطية .
وعندما وسعت مدى رؤيتي ، وحاولت ألا أبقى أسيرا لنمط أغاني المجموعات الحديثة ، واستشرفت معالم ثنائية الثقافة والموسيقى في التراث المغربي لاحظت أولا غنى الموروث الموسيقي التراثي ، وتوصلت إلى يقين ، مفاده أن كل تلك القوالب والأشكال تأسست على معرفة ، وشارك في بلورة صورتها النهائية مجموعة من الطاقات وعلى امتداد أجيال متعددة ، ومنهم مثقفون ومفكرون كانت لهم معرفة بالطبوع الموسيقية المختلفة ، واستطاعوا أن يوائموا ويبدعوا في المجالين معا ، وكانت لهم القدرة على صقل المضامين وتجويدها ثقافيا وفنيا حتى أضحت أيقونة جميلة تتردد على الشفاه ، وتحس بتأثيرها الدواحل .
إن ثنائية الثقافي والموسيقي مهملة لحد الآن في أبحاثنا ومشاريعنا العلمية مع أنها من أقدم ما أبدع في شأنه الإنسان ، وما واجه بواسطته ظروف الحياة ومعضلة الوجود .
فالكون الذي خلقه الله تعالى مصنوع على ما يتناسب مع تركيبات الإنسان ، ولهذا نجد فيه الغيب ، ونجد فيه ما يدرك وما لا يدرك ، ونجد فيه ما يخاطب العقل ، وما يخاطب النفس ، ونجد فيه مضامين تعود لرب العزة ، ومضامين تعود للإنسان بكل أحواله السلبية والإيجابية ، ونجد فيه كذلك ما يتناسب مع التأثير الموسيقي الإنساني من خلال ما تشعر به العين والأذن وبقية الجوارح ، ومن الخطأ الفادح أن تبقى هذه الأشياء المتلاحمة في الوجود بعيدة عن بعضها البعض في المشروع الثقافي والفكري للإنسان وهي تعبر أصدق تعبير وأقدمه على حقيقة الآدمي ، وتروي لنا تاريخه الطويل وبجميع التفاصيل التي تنمحي وتُفقَد فيما سواه .
يعز علي الآن وبعد هذا الإدراك الجديد أن لا أجد مثلا مشاريع تخص تجليات الثقافة في القوالب الموسيقية المغربية ، وفي تجارب أسماء مثل أحمد البيضاوي وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وغيثة بن عبد السلام وغيرهم ، وكذلك الأمر في الألحان العظيمة المتنوعة التي يتشكل منها التاريخ الغنائي المغربي ، ناهيك عما تطرحه لنا القوالب الجماعية الفلكلورية من غنى معرفي ، ومن انتشاء روحي ، ومن لوحات فكرية وفنية ، راقصة ومعبرة ، وخالبة للأذهان ولكنها مجهولة من ناحية الدراسة والتحليل الثقافيين فيما بيننا لحد الآن .
بهذا المفهوم حاولت أن أتلمس طريقي في شعاب ثنائية الثقافة والموسيقى ، وأن أضع بعض المحددات الأولية لمغامرة تجمع ما بين المتفرق والمشتت الذي يبدو بعيدا ومتنافرا ، ويستصعبه كثير من الرواد في مجال الثقافة والموسيقى ، وتلك المحددات تتوخى تحقيق مجموعة من الأهداف المتمناة التالية :
1- محاولة الجمع بين ما هو ثقافي وموسيقي من خلال البحث في المنطلق والمنجز والأهداف ، وكلها عبارة عن أنساق متكاملة ومتداخلة ومتفاعلة .
2 – القضاء على تلك التفرقة المشينة القائمة فيما بين البعدين المذكورين ، فنسبة من الناس يظنون أن الميدانين لا تربطهما أية علاقة ممكنة في الأفق ، وهذا الفهم يعتبر قصورا في نظري ومن نتائج النظرة السلبية المتحكمة في الثقافة والموسيقى .
3 – تشجيع طلبة الموسيقى على الخصوص في إقحام أنفسهم في هذا الخضم ، فهم يملكون الحس الموسيقي ، والأدوات المسعفة على التجاوب اللحني مع المواقف الثقافية التي تطرحها متون الأغاني ، ومضامين المقطعات الموسيقية ، وإذا تشجعوا وأتقنوا الجانب المعرفي كما يتقنون الجانب الموسيقي فسنحقق مكسبا عظيما يعود بالنفع العميم على كافة أنساق الفكر والمعرفة .
4 – تطلعنا نحن الباحثين المهتمين بالجانب الثقافي إلى زيادة مخزوننا الفكري عن طريق التطلع والاكتشاف ، وأيضا عن طريق إيجاد الأجوبة الممكنة والصحيحة حول مجموعة من التساؤلات التي تغامر أذهاننا دائما من قبل : هل الشعور بالتأثيرات الواحدة والموحدة يؤدي إلى التشابه والتداخل بين مختلف القوالب الفنية التي توصل إليها الإنسان ، وصنع مضامينها بفكره وروحه ، هذا من ناحية المحتويات والمنجز الفني النهائي ، وهو ما يدفعنا إلى طرح سؤال آخر حول ماهية النفوس المتفرقة والمختلفة من ناحية الوجود الزماني والمكاني : هل تخضع لتركيبات دفينة تجعل منها شيئا متجانسا ومتفاعلا على مستوى فعل الفكر والثقافة بمفعولها المحلي والعالمي .
5 – اكتشاف الآفاق الإنسانية المتوحدة في الجوهر وفي الأنساق المعرفية المتنوعة ، ومحاولة التعرف على تفاصيلها المختلفة لعلنا نعثر عن القواسم الوجودية المشتركة في مكونات الإنسان ، وفي مكونات جميع عناصر الكون ، وقد قلت سابقا بأن الإنسان خلق على طراز خاص يمكنه من العيش بسلام ، وإقامة العلاقات الممكنة مع بقية العناصر الوجودية ، وقد يذهب الإنسان بعيدا في المماثلة والبحث حتى يجد أنسه ومعاني وجوده الضرورية ، وكذلك الوسائل التي تمكنه من الحركة والتغيير ، ونشدان التطور والتغيير المطلوبين في الحياة والاستمرار إلى ما شاء الله تعالى .
6 – معالجة بعض الآفات في كيفية التصور والانسجام الكوني ، وما يتعلق بالإنسان منها على وجه الخصوص ، فالناس مؤطرون بقواعد كونية ، تتضمن مطالب الحسن ، وتحث على محاربة مظاهر القبح ، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الحسن وقفا على معطيات معينة ، ولم يحصر القبح في أشياء بذاتها ، بل جعلهما موجودين في كل العناصر والأشياء لحكمة الاختبار والعمل والاختلاف ، وتربية الحس والذوق ، وإقامة التمايز الضروري عند الإدراك ، ودعوة الإنسان إلى استخدام مواهبه ومؤهلاته للظفر بالمبتغى ، فالاستخدام والقصد هما الميزان الأساسي في الرفض والقبول ، ولهذا نجد في نصوص القرآن الكريم مثلا موسيقى تطرب لها الأذن ، وينفتح معها القلب ، وتؤثر تأثيرا إيجابيا في النفوس ، ونجد في الأزمنة الغابرة قائد القوافل في الصحاري يترنم بمرددات تتضمن موسيقى تسمى بالحُداء ، يأنس إليها الإنسان والحيوان ، وتساعد على مقارعةصعوبات السير في الفيافي الواسعة ، والتخفيف من الآثار القاسية للرحلات المختلفة ( بصدى يردد مواويل البدو ومعزوفات الريح والليل وأغنيات الرعاة ورغاء الإبل منذ فجر التاريخ ، تدندن في صمت المكان ، وتبعث ترتيلات الروح ترنيمات في جنباته…….( تسمى ) الحداء ، وهو الغناء الذي يطلقه الرعاة للإبل ) .
وعلى مثل هذا المقاس ينبغي أن ينظر إلى الموضوع ، وتناقش أفكاره ، وتحلل ، وما أكثر ما توصل إليه الإنسان في وقتنا الحاضر من مثل هذه القوالب الموسيقية التي تنبعث بدوافع معينة وجودية وثقافية وإن اختلفت باختلاف البيئات المتنوعة ، فيكفي فيها أنها تدل على هذا الكائن الحي المسمى بالإنسان ، وعلى معرفته الوجودية ، وكيفية الفهم والتعبير من خلال الأنساق الثقافية ، سواء كانت كلاما ، أو صمتا ، أو موسيقى ، أو رسما ، أو حركة……… وغيرها من تلك الأنماط الثقافية الكبرى التي جعلت الإنسان مخلدا ، ومنسجما مع محتويات الكون الأخرى ، وسعيدا في النهاية بما اخترع وأوجد وأجاد فيه ، فنجاح الإنسان في البقاء والاستمرار مرجعه إلى عناية الله تعالى في الخلق ، وبما زود به عباده من وسائل التفكير والتثقيف والتعبير والإبداع .