توطئة عامة :
الشاعرة دليلة حياوي مبدعة متعددة المواهب ، ومتنوعة المشارب ، فهي شاعرة وكاتبة ، وصاحبة صالون أدبي عريق : ( جنان أركانة )
تقيم في روما بإيطاليا ، وأصلها من مدينة مراكش بالمغرب ، ولها ولع كبير بحياة الفكر والفن والإبداع الإنساني بصفة عامة .
صدرت لها لحد الآن مجموعة من الإصدارات الإبداعية ، تلخص لنا تعدد مواهبها الفنية ، كما نستشف ذلك من العناوين الآتية :
- رواية بعنوان : ( يوميات زوجة مسؤول في الأرياف ) .
- ديوان شعر بعنوان : ( شراع اليَرَاع ) .
- ديوان شعر بعنوان : ( في حياة أخرى ) وهو موضوع قراءتنا .
- مسرحية بعنوان : ( تكشبيلة مراكشية ) .
- ديوان عربي إيطالي بعنوان : ( فحيح الزعفران ) .
- ديوان عربي إيطالي رقمي بعنوان : ( نسيم الجنوب ) .
- شذرات صحفية نشرت بالصحافة العربية والإيطالية تحت عنوان : ( بريد من الماضي ) .
هذه الحمولة المكتنزة ، وهذا العطاء المتنوع هما اللذان كانا سببا للانكباب على قراءة ديوانها ( في حياة أخرى ) في طبعته الأولى الصادرة سنة 2016 عن دار الجندي للنشر بالقاهر ، وهي دعوة مفتوحة لكل القراء ، عشاق الشعر ، والكلمة الفنية للتتبع والموكبة من أجل سبر أغوار الشعر النسائي المغربي المعاصر كما تراءى لنا في تجليات الديوان المذكور .
مضمون الحلقة الثانية :
2 – النظرة الأفقية المتساندة والمتكاملة : يمكن أن نميز هنا ومن خلال ما جاء في ديوان : ( في حياة أخرى ) بين أربع تشكيلات أساسية بعناوين تجمع ما بين الحياة وما يغلفها ، أو يسيطر عليها من ناحية الأحداث والوقائع النفسية ، وتلك التشكيلات هي :
حياة التباريح .
وحياة بطوف جغرافيا .
وحياة بطعم المناكفة .
وحياة بلسان قومي .
فالحياة ألوان وهي عبارة عن ضغوط مؤلمة ، وجروح غائرة ، واستطاعت الشاعرة أن ترمز إلى كل ذلك ، وعلى صعيد اللغة بدلالات قوية ومتنوعة ، تتناسب ما عليه الحياة من تقلبات وأوجاع ، فلفظ ( التباريح ) يعني الشدة والمشقة ، لا يستخدم في اللغة العربية إلا بصيغة الجمع ، بالرغم من وجود مفرد له هو : ( تبريح ) ثم أضافت إليه الشاعرة أداة التعريف ( أل – التباريح ) وتصح أن تكون للجنس بمعنى تحديد النوعية وتمييزها لتشمل كل المشاق بالمقارنة ببقية أتعاب الحياة ، أونوعا واحدا من شدائد تلك المشاق ، كما يصح فيها معنى الاستغراق ، خاصة إذا ربطت بمعنى كل الحياة ، وهكذا توفقت الشاعرة كثيرا في التعبير عن المآسي النفسية المتلاحقة عليها بصيغ كثيرة ، تجمع ما بين الحياة واضطراباتها المتلاحقة والمتنوعة ، وسنرى في دراستنا العمودية المقبلة أمثلة تفصيلية ودالة .
أما التشكيل الثاني : ( حياة بطوف جغرافيا ) فهو قصير المدى ، ولكنه عميق في دلالاته على المرض والبعد والحرمان في أوقات زمنية عصيبة ، مرت بها شاعرتنا ، فقد تنقلت ما بين مراكش وفاس للدلالة على كل الزمن بماضيه ، وحاضره ، ومستقبله ، فمراكش مسقط الرأس ، وجامع للذكريات الهادئة والجميلة ، لم يعد كما كان ، بل تحول إلى لحظات من الحياة فائتة ، وبالرغم من وهجها وجمالها في النفس إلا أنها أضحت مزعجة وموجعة بعد أن أفلت ، وانعدم استمرارها ، وغابت مع الأفق ، واستبدلت بأنغاص وأمغاص ، وخواء فكري ، وفراغ نفسي مدمر ، وفاس هي رمز لكل ما هو جميل من الحياة في أبعادها الزمانية والمكانية المتعددة ، وهذا نوع من الاتزان المفقود ، التجأت إليه الشاعرة لتحافظ على ما تبقى من كينونتها المتصدعة .
استمع إليها وهي تناجي نفسها بحنين كاشف ومعبر عن لوعة الفقد ، وفتنة التيه ، والعدم المجهول المصاحب لذات الشاعرة ، تقول : ( الديوان : 58 ) :
من هنا مر أجدادي
لا عبير لهم باق….
ولا خطو باد
خلا أبيات شعر
وتيجان رؤوس
حالكة السواد .
وعندما نصل إلى التشكيلة الثالثة : ( حياة بطعم المناكفة ) فإننا سنلج إلى مرحلة الممانعة كما تجلت في الديوان ، وهي تعبر عن الأمل والوعي اللذين يصحوان في دواخل الشاعرة ما بين الفينة والأخرى ، ولعلنا بذلك نصل ونتحدث عن فترات العقل والانشراح القليلة في حياة الشاعرة ، تنتشلها من الأمواج العاتية المحيطة بها من كل جانب ، والمحاصرة لها في جميع دروب حياتها ، هنا تستيقظ دليلة لتحدثنا عن الحب بمعناه الفردي والجماعي ، وعن الوطن ومآلاته المختلفة ، وعن الأنثى الشامخة في كبريائها بعنفوان التحدي ، وحرمة التقاليد ، والتوشح بزينة الإبداع والقصيد .
والجميل هنا أنها انطوت على نفسها كثيرا ، وراحت تصرخ وتبوح بما تريد بالرغم من أنها أهل لكل مكرمة ، فقد مر يوم موعدها جافا وباردا ، فاستشعرت معه بفرادة وجودها ، كما أنها تسافر بعيدا من أجل البحث عن الحب المفقود في حياتها ، ولهذا تداعت مع من شاركها في مثل هذه الأحاسيس الكبرى من المارين بالحياة على شاكلتها وجودا وخبرة ، قبل أن يأتي الدور على شاعرتنا ، فاستدعت المناسبة الأليمة حضور الشاعر الغنائي كامل الشناوي عبر قصيدته ( يا يوم مولدي ) وحضرت كذلك قصيدة الشاعر نزار قباني ( قولي أحبك ) للمقارنة بين حيوات الناس المتشابهة إلى حد التطابق المقرون بإرادة الشاعرة أن تضيف تجربتها الذاتية الكئيبة إلى مجرى الشريط العام الدال على الإخفاق والفشل لتكبير حجم التشنيع والدلالة على الرفض ، ولتنضم في النهاية إلى معاناة حزب الحياة الحقيقي العامر بالشدة والقسوة ، وليحصل الاتصال ما بين أزمنة وأمكنة الحياة من أجل الاعتبار والتحدي المفتوح والممكن أن يدلي به كل إنسان يملك ما تملكه الشاعرة على صعيد الوعي في المكانة ، والرغبة في الممانعة الآدمية الواسعة ، ورفض الظلم الجاثم على الكون بصفة الدوام والتكرار ، تقول في مقطع صغير ومعبر بمضمونه المراد ( الديوان : 65 ) :
هل تطمح الأتان….
أن تعدو يوما بين الغزلان
تهب دنيانا بغلا….
ولو فحلوها أجود حصان .
ونختم هذه النظرة الأفقية بالتشكيل الرابع والأخير : ( حياة بلسان قومي ) وعبرت عنه بقصيدتين بليغتين ، كتبتهما باللسان المغربي الدارج ، وهما عبارة عن جذبة واحتماء بأولياء مراكش السبعة مما سيجعلنا أمام مجموعة من الدلالات الجديدة ، الممكنة وغير الممكنة ، من الأفضل لنا نحن معاشر القراء أن نحولها إلى أسئلة عامة وحارقة ، من قبل : هل هي أمارات الاستسلام في النهاية ؟ أم أنها خروج عن حدود التعقل والوعي الذي فشلت فيه الشاعرة ؟ أم أنه إصرار وعزيمة عارمة تنبعث ، ورفض للمتمكن ، ومواصلة لدرب الممانعة والمقارعة والتحدي ؟ .
أظن وفيما أعرف عن الشاعرة أن الأمر تجتمع فيه كل مضامين الأسئلة المطروحة بأحداثها وجزئيات أزمنتها المفارقة ، وشاعرتنا إنما ذكرت كل ذلك بحاستها الإبداعية على غرار جميع المبدعين الذين يتحصنون بذواتهم ، وبأفكارهم ، وبمعالم التاريخ وتجارب الأشباه من الموتى والأحياء .
وأعتبرها الميزة الأساسية التي تميز المبدع المتبصر مقارنة بالإنسان العادي ، فهو يرى الحياة بحواسه كلها ، ومن خلفها تتولد له حواس ذاتية خاصة به ، تجعله يصرخ ، ويفرح ، ويحزن ، ويبوح ، ويسافر ، ويطير في أجواء الكون للبحث عن المفقود المأمول ، وليقف في وجه كل تيه ومجهول ، فالرسالة الإبداعية عموما هي رسالة تنوير وإصلاح ، وتوازن ، ودعوة مستمرة إلى التكتل والتحدي ، والإتيان بالبديل المنشود .
( يتبع.. )