كما وردت في كتاب الأستاذ عباس الجراري : ( القصيدة )
كلمة أولية :
يعتبر كتاب الدكتور عباس الجراري : ( القصيدة ) من أوائل ما كتب في شعر الملحون على النهج العلمي في رحاب الجامعات الحديثة ، وفي وسائل البحث المستعملة ، وحاول فيه صاحبه أن يحصل على هدفين اثنين : الهدف الأول هو الإلمام بقصيدة الملحون شكلا ومضمونا وإعادة الاعتبار لها بعد أن همشت طويلا ، الهدف الثاني : هو تقديم نموذج للمثقف المغربي بمفهومه الخاص الذي يزاوج بين التكوين العام الرصين ، وبين تكوين الأسرة والبيئة والمجتمع في صقل الموهبة والذوق وحاسة الإبداع للنشء بصفة عامة .
فالآفات اليوم تكمن في جهل أكثرية مثقفينا وطلابنا للمكون المغربي في امتداداته البيئية والتاريخية والمعرفية ، وتلك الامتدادات لا تقل أهمية عما هو مسيطر ومهيمن على نسق التعليم والتكوين والمحتوى الفكري والفني الرائق ، إن لم يكن يفوق ويتفوق عليه ، وكم أتحسر عندما أرى مثقفين وطلابا يعرفون كل شيء عن ثقافة العالم ولكنهم يجهلون ويعادون ما هو في بيئاتهم ، وما تتشكل منه هوياتهم بالفطرة والاكتساب .
وفي سبيل المساهمة في تقويم هذا الاعوجاج أقدم هذا الموضوع في حلقات للمهتمين من المثقفين والطلاب والغيورين والجمهور العاشق للفن ، لعلنا نستطيع حلحلة أخطاء الوضع القائم .
كتب الرواد الأوائل الذين كتبوا عن فن الملحون ، وكانوا من جيل متقارب مع مطلع وطيلة القرن العشرين تحتاج إلى مراجعات ودراسات ، تبسط القول فيما توصلوا إليه وتربط بين ما توفر لديهم ، وبين ما أضيف على صعيد الشعر المذكور ، وعموم الثقافة الشعبية من طرف باحثين وقارئين جدد .
والمناداة بالمراجعة والبحث من جديد لا تعني نقصان منجزات جيل الرواد ، ولا خدش ما توصلوا إليه ، وإنما تروم أساسا إلى ضمان مواصلة رحلة الدرس والعطاء ، وتفصيل ما ورد عندهم مجملا ، واستدراك ما فات عنهم في بعض جوانب شعر الملحون بعد أن توفرت النصوص قليلا مقارنة بما كان عندهم ، واتسعت الدراسات والأبحاث ، والأهم بعد ذلك هو الإشادة بمجهود هؤلاء الرواد الأوائل العلمي وشجاعتهم الكبرى في اقتحام وإنصاف الموروث الثقافي المغربي الأصيل في وسط متنكر ومتكبر ، كان صادا ومتبرما وعاقا بكل روافد تلك الثقافة الشعبية الدالة على كثير من مناحي الفكر اليانع ، والجمال الأخاذ وفق قواعد وشروط ومقاييس مختلفة ومتنوعة ، لها مَسٌّ محكم وامتداد واسع بكل ما تستوجبه قصيدة الملحون على صعيد رسوخ الموهبة وصلابة الثقافة والمعرفة بالمجتمع ، والقدرة على جودة الصناعة وبراعة الإخراج .
الحلقة الثانية :
ومعالجة موضوع الامتدادات الثقافية والإبداعية في الشعر العامي يستوجب منا أن نــتـــعــــرض لطبيعة المضامين ، ولن نقف فيها على عتبة الأسماء والمواضيع المستعملة ، وإنما سنحاول أن نقف وقفة متأنية مع مجموعة من المعطيات الفكرية ، شكلت أفقا عريضا وكبيرا لمفهوم الامــتـــداد بمعانيه الــثــقــافـــيـة والإبداعية ، وحتى لا نتيه في كثرة المضامين اخترت أن أقف مع موضوع المرأة كما جـــلاه لنا الأستاذ عباس الجراري في كتابه ( القصيدة ) .
موضوع المرأة كما تبلور في شعر الملحون ينقسم في نظري إلى قسمين كبيرين : قسم اتخذت فيه المرأة موضوعا بالمفهوم العام القائم على التقابل الموجود بين الرجل والمرأة في مناحي عـــديـــدة مـن الحياة ، وقسم ثان تحولت فيه المرأة إلى رمز للحديث عن ظواهر المجتمع المختلفة كما سنرى ذلك من خــــــلال الأمثلة القادمة .
– الــقســم الأول : نستطيع هنا أن نـأتي بمجموعة من الوقفات التي تجمع بين الرجل والـــمرأة داخــــل معترك الحياة ولكنني سأختصر الموضوع هروبا من التطويل ومن الوقوع في ظاهــــرة السرد المملة ، وسأقف على مضامين العناوين التالية :
1 – موضوع الجمال : وقد شكل مجالا خصبا للتباري بين مختلف الشعراء ، فكثرت بسببه الأسماء ، وشحذ من أجله الخيال ، ولهجت بذكر محاسنه كل الاسئلة ، وتمددت فيه الثقافة ، وتداخـــلت معالمها المتنوعة ، يقول الجراري في حيز الجمال : (…….تناول شعراء الزجل جمال محبوباتهم على حد ما يعرض لنا الجيلالي امثيرد في ” خدوج ” فهي بديعة الجمال ، رقيقة الملامح ، وهي فاضلة وعاطفة ، ذات حسن جميل ساطع ، ليست لها مثيلة في بنات جيلها ، يوافقها خليلها وتوافقه في طاعة مــتـبادلة :
خدوج ابديعت لجمال
خدوج ارقيقت لحروف
خدوج امنارت لفضال
خدوج انهايت لعطوف
خدوج ما لها امثيل
في بنات اليوم ابلجميع
اخليلا رايما اخليل
طاعا وخليلها امطيع ) ( كتاب القصيدة : 204 ) .
2 – موضوع الشكوى : ومعناه إحداث مجموعة من التغيرات السلبية على طبيعة الإنسان بسبب العلاقة الجامعة بين الرجل والمرأة في امتداداتها النفسية العميقة ، فشاعـــر الملحـــون ابن سليمان كما يـــقـــول الجراري : ( يشكو السهر والقلق ، ونار خدوج وسلطانها الذي سل عليه الحسام فأحس بالفالج يــــشلــه :
نارك فالقلب تروج
وخيالي ما يخفاك عن امهاجي
سهران طول داجي
واعييت ما نراجي
اهواك صاك لي سلطان احريج
زادني فالخاطر تهجيج
سال احسامو للتوديج
سرت مفلوج من زينها المفلوج ) (كتاب القصيدة : 224 ) .
3 – موضوع إرسال المبعوث ( المرسول ) : وهـــو مــوضــوع عريض وطويل في شعر الملحـــون ، وله امتدادات وتجليات عديدة ، وما يهمنا منه هنا هو ما يلائم العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة ، وما تـــمخـــض عنه على مستوى الاستحداث ، وتطور قصيدة الملحون بصفة عامة ، يقول عباس الجراري عــن الاجتهادات الجديدة : ( وقد أطلق الشعراء اسم ” المرسول ” على القصائد التي تحكي ذلك ومن أروعها مـــرســــول الحاج أحمد الغرابلي الذي بعثه من مراكش إلى فاس بعد أن أخذ منه العهد أنه سيحضر له محبوبته ، ولكنه عاد بمفرده ، ولم يحقق الغاية من سفره ، فأسقط في يد المحب ، وتاه عن عقله ، وانهمــــرت دموعه…..) ( كتاب القصيدة : 245 – تابع مراجعة أجزاء من القصيدة : 245 – 246 ) .
وهكذا يدور شاعر الملحون منقبا في نفسه عن أثر الوقائع القائمة بين الرجل والمرأة ، اتـــخـــذها متكأ للتعبير الصافي ، والبناء السامي الجامع بين عناصر عديدة ، فقد رأينا طبائع الرجل والمرأة ، ورأيـــنا المعاني تتقلب وتتغير تبعا للنفَس المتحكم في عملية النسج ما بين الفرح والحزن ، والإقدام والإحجـام ، والسلب والإيجاب ، ورأينا العناصر المساعدة تعمل وتتفاعل لتقريب البعيد ، وتيسير الصعب ، والجمع بين الشخوص ، والأزمنة ، والأمكنة عبر امتدادات منتشرة في الأرجاء بدقة وفعالية مندمجة ومؤثـــرة .
( يتبع )