الحلقة الثانية :
لا يمكن أن نطوي صفحة الشعر المساهم والمشارك في بناء وعي الأمة دون أن نخصص لبعض الأحياء من الشعراء حيزا يساير تفاعلهم ، ويليق ببعض التدوينات والأقوال الشعرية الحية والمشاركة في بناء وعي الأمة انطلاقا من قناعاتهم وفهمهم الصحيح لمعنى الانتماء بكل معانيه ، فلا قيمة لشعر ظل صاحبه يُسَخِّرُه لخدمة أغراضه الذاتية الضيقة ، وحَرَمَه من التمدد للالتقاء بكوكبة الشعراء الشرفاء والشريفات على مستوى قيم وقضايا الأمة المُلتَهَبَة ، وهذا ما كان عليه الشعر دوما ، وما كان يقوم به من وظائف فكرية وحضارية واجتماعية وسياسية ، فحتى الشعراء الصعاليك لم يتخلوا عن انتمائهم الأصيل بالرغم من قساوة ظروفهم داخل المجتمع ، وللأسف لم يعد هذا الإحساس قائما وصافيا وصادقا في وقتنا الحاضر .
من الصدف العجيبة أنني عندما كنت منهمكا في تحضير هذا المقال اطلعت على رأي شحص عربي من ذوي الجنسيات المتعددة ، والمواقف المتحولة ، ناصر الصهاينة في جرمهم وقتلهم للأبرياء ولكن بقدرة قادر ، وربما من شدة ما لاقى من التشنيع على وسائل التواصل الاجتماعي انقلب وتباكى وأعلن أنه سينشر مقالا شعريا لما للشعر من أثر ، يناصر فيه القضية الفلسطينية كما كان ديدنه حسب زعمه ، وأنا هنا أشرت إلى هذه النازلة لسببين أساسيين :
الأول هو بيان أهمية الشعر والفن بصفة عامة في معركة بناء وعي الأمة ، ودورهما الفعال في تبليغ الرسائل ، وتحبير المواقف .
والثاني هو إظهار مقدار قيمة كل شاعر ، وكل فنان عاش مناصرا لقضايا أمته ، وأصر على مواصلة السير في زقاق النصر المرتقب مهما بلغت التضحيات ، وعظمت الشدائد ، متلحفا بقوة المبدأ ، وسلاح الكلمة المنتقاة بوعي وجمال .
وقفتنا في هذا المقال الجديد ستكون مع شعر زميل وصديق من العراق الشقيق ، مقيم بالأردن ، هو الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف ، شاعر الأشجار حيث أثارت انتباهي في المدة المتأخرة بعضُ نصوصه وتدويناته فأعجبتني ببساطتها وصدقها ، وعلمت فيما بعد أن إدارة الفايسبوك طلبت منه سحبها وإلا ستُغلِق حسابه ، هكذا يفهمون الحرية والديمقراطية المُرَوِّضَة للشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها ، ومن حسن الحظ أنني سجلتها في سجلي الخاص ، وبقيت أطالعها وأهيئها لهذا المقال .
ما جرى في غزة ، وفي عموم المنطقة أتاح فرصا متعددة للمبدعين لكي تنبثق عيون الإبداع المتدفقة من دواخلهم ، وتتجدد الصلة الإبداعية بين مختلف الأجيال ، فكل شاعر وشاعرة تمتح من معينها المفضل ، فهذا يقطف من ثمار الأشجار القديمة ، وذاك يغرس ثماره وأشجاره الجديدة ، وثالث يؤلف ، ويقتفي نهجا مشتركا يجمعه بمعاصريه ، والمُحَصِّلة في النهاية هي الحرص على القول الشعري الجميل بالرغم من اختلاف المنطلقات وتبدلها .
إذا أردتُ اختصار لحظة الشعر المسايرة للأحداث القائمة عند شاعرنا سعد ياسين يوسف سأكون مضطرا من أجل البيان أكثر إلى تبويبها في ثلاثة أبواب وبذيول فكرية وفنية عميقة جدا ، وسأرتبها على المنوال التالي :
الباب الأول يجمع ما بين الوهم والحقيقة ، وشاعرنا كان ذكيا وملما بما يجري إزاءنا ، مما خفي منه أو ظهر ، ولهذا فضل أن يرسل رسالة اطمئنان للجميع مستفادة من طول نظره ومعرفته الواسعة للوصول إلى حقيقته المرادة والدالة على البقاء والحياة ، أو على الأقل أن يقوم بغرسها في النفوس كما يراها ، والعملية كما وعاها شاعرنا هي شاقة وطويلة لأنها تتصل بقضايا الأمة ، وتسعى لبناء وعي صحيح من ركام الدمار والفساد المنتشر في الآفاق قصد تثبيت العزيمة ، وتخليصها مما شابها وعلاها من الغبار والصدأ ، كم من واهم ومتوهم يعيش بجوارنا ومعنا ، ويظن أن البحر اختفى بمجرد سكون وهدوء أمواجه ، وهو ما يمكن استخلاصه من واقعنا نظرا لطول صمتنا ، وتقبلنا للغشاوة المفروضة علينا بكل عوامل القوة المتوفرة للآخر وللعدو ، يقول في تتبع منظم ومفصل وجميل وعلى لسان كل وَاهِم ومتوهم :
واهمون أنَّهم دفنوه !!!
واهمون أنَّهم تلقوا التهاني
بموتهِ وتيمموا بذراتِ السَّراب
وتقاسموا الصمتَ!!!
واهمون إذ ظنّوا
بأن الذي اغتالوهُ…
لن يشرقَ طوفاناً
يضيء …!!!
هل يُدفن الصباح ؟؟؟
من تحتِ هذي الأرض
ينبثقُ النوارُ!!!
يحملُ أسماءَ
الذين تجذروا
وهم يضيئونَ
(غرة) أجمل فاتنةٍ
على البحرِ
ويمسحونَ النقطةَ
السوداءَ
فوقَ عينها !!!
لتتسعَ الرؤى
لأقصى الشمسِ
وهي تكسو بذهبها
جدرانَ بيوتنا
التي دمرها الصمتُ ! .
الباب الثاني هو مكمل ومُؤكِّد لما جاء في الباب الأول ، لأن الحقائق المتداولة بين الناس تختلف باختلاف المبادئ والوعي والمنطلقات والغايات ، فالوسيلة تبرر الغاية ، وتبقى طريقا سالكا للمُغتصِب للحقوق بدافع القوة والجبروت ، أما الباحث عن العدل والإنصاف فله موازينه التي تجمعه بكل الناس حقا وواجبا ، ومن الجميل أن يناقش شاعرنا الفكرة المذكورة وغيرها بوعي ينتمي إلى الأمة ليذكرنا بحقيقتنا وحقيقتهم ، ويتخذ من جدلية الحياة والموت عندنا وعندهم مثالا واضحا ، مُحَكِّما مفهوم عقيدته الراسخة والمستوحاة من قوله تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ – آل عمران : 169 ) يقول :
يا أيها الباقون فوق الثرى
كمثلِ ضمادةٍ لنزيفِ جرح الأرض
لاتصدروا شهاداتِ الوفاة ِ
فهم بأجسادِ البراءةِ الغضةِ
بلوعةِ الأمهاتِ في الرمقِ الأخيرِ
بعيون ظلت تحدّقُ في السماء ِ
الباب الثالث مركب من حقيقتين اثنتين ومكملتين لمعنى الأمة ، ولمشوار معالم البناء الصلب والممتد على طول الحياة والوجود ، والمتخطي لفترة الحياة الدنيوية ، وهذا فرق كبير وأساسي لتحديد مجموعة من المفاهيم الضرورية كي تستقيم حياتنا بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية كالموت بمعنى الشهادة ، وكالنصر بمعنى إقرار الحق وإزهاق الباطل ، وهذه هي الحقيقة الأولى التي تعني الثبات والمناصرة في تأدية وظائف الخيرية المتصلة بالأمة ، يقول في تتمة نص تفيد أن الغلبة الميدانية أو النفسية تستمد من جينات الأصل ، وليس من وسائل المعركة المتفاوتة :
وهي تطفو على بحرِ الدماءِ
بغبارِ البيتِ الذي دكتهُ الصواريخُ
وهي ترسمُ بالرّمادِ
شكلَ الموتِ على الوجوه
بارتجافةِ العصفِ الذي شوى الوجوهَ
كتبوا شهادات الوفاء
شهادات الحياة !!! .
أما الحقيقة الثانية فهي حصيلة نهائية لما ينبغي قوله والإيمان به دائما ، فما دمنا نعيش بمبادئنا ووعينا ، فيما بيننا ، ومع الناس جميعا فلن يعرف الموت سبيلا لنا ، فالحياة هنا تخرج عن إطارها الزمني الضيق لتنتشر كحبات الغرس في التربة على أمل أن يحصل زمن الجني قريبا فتتسع الحياة ، ويكثر خيرها ، والأهم هو العمل على استمرارها بمبادئها الإنسانية العامة والخاصة ، يقول شاعرنا معلنا أن لحظة الموت مستحيلة في عرفنا :
قبل َ أنْ تصطخبَ الدِّماءُ
تلكَ الَّتي نبضت ْ بريّها صخرةٌ
تلك َ التي تدفقت ْفي نُسْغِ الحجارةِ
أكثرَ مِنْ ألفَي نشيدٍ
مزّقَ الصَّمت َفي المذبحِ
واخضرَّ آياتٍ على الشِّفاهِ
قبلَ أن ْ تُطلقوا الرَّصاصةَ الأخيرة َ
على البُراق…
ستطرقُ الأبواب َ
باباً… بابا,
ترمقُكم بجمرِها
عيناهُ وآلافُ العيون ِالَّتي
“ترحل ُكلَّ يوم” صوبَها
تمسح ُعن جبينِ السّيّد المسيحِ
ما نزَّ مِنْ دماء….
من شروط الإبداع عند المبدع الأصيل الموهوب أن يكون إبداعه متوافقا مع قناعاته الفردية والجماعية ، ويعلن بواسطته عن خاصية الانتماء إعلانا لا لُبس فيه وعلى كل المستويات ، فالمواقف قبل أن تنجز إبداعا تكون من المحركات الأساسية لعملية الإبداع برمتها ، وتكون مواكبة للزمان بحمولاته المختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل ، وشاعرنا الدكتور سعد ياسين يوسف من هذه الطينة الطيبة المسايرة لقضايا الأمة كما رأينا ، والمُنافِحة عن مبادئها وأحقية تصوراتها في الوجود وإن لم يُسَلِّم بها الأعداء المتربصون بنا ، قصد إزالتنا وصَدِّنا عن مزاولة مهمة المحافظة على الحقوق ومضامين الهوية المانعة لهم من الوصول إلى مبتغاهم ، فمما تعلمناه من شعر شاعرنا ، ويجب على الآخرين أن يعلموا به ويتعلموا منه حقائقنا هو أننا لن ننهزم ، ولن نموت ، ولن نتراجع عن مبادئنا ، ولن نستسلم أو نسمح في مقتضيات هويتنا ، ولن نعيش إلا على ضوء العقيدة الراسخة في دواخلنا ، وسنقضي على كل الأوهام المحيطة بوجودنا ، والساعية إلى اجتثاتنا…..هكذا نحن ، وهكذا قال شاعرنا وأحيا نفوسنا من جديد .
. أستاذ جامعي – مراكش