ـ 3 ـ
جامعة محمد الخامس، وكلية الحقوق تحديداً، هي « قدري، وهي من أعرف » أكثر من غيرها. دخلتُها طالباً ذات يوم بعيد، ولم « أخْرُج » منها ليوم الناس هذا. هي « المكان الذي أعيش فيه »، ولا « يُلْهمُني أيُّ مكان آخر في العالم » سواها. هي اليوم في حُلَّة قشيبة، استعادت مِعْماريتها الأنيقة، التي طمستها السنوات الرديئة. كما استعادت، على يد العميد فريد الباشا، « الأيام » التي كانت لها، والريادة المعرفية، والبحثية التي كادت أن تضيع منها بفعل السنوات العجاف.
يوم الجمعة 27 مايو 2022، عُدتُ، « مَلْأَ صدْري حُبٌّ، وتوقٌ، وحُبور »، لإلقاء محاضرة بعنوان « بعضُ أوْجُه الاختلاف بين البحث والتقرير »، بدعوة من شعبة القانون العام والعلوم السياسية التي يرأسها الأستاذ بوجمعة البوعزاوي، أبْلغني إياها الصديق الأستاذ الهادي مقداد. نُظِّمت المحاضرة في إطار « حلقة تكوينية » لفائدة الطلبة الباحثين بسلك الدكتوراه. جاء الأحِبَّة من الأساتذة: العلاَّمة عبدالرزاق مولاي رشيد، ميلود الوكيلي، الهادي مقداد، عبدالإله العبدي، جاؤا فتدفَّق الدفءٌ والوفاء، وانثالت الذكريات العذبة. تحدَّثْتُ في العرض عن البحث، شروطه، كيفياته، آلياته، أدواته، قيوده. قلتُ : إن « البحث اعتقاد بحساب »، أي اعتقاد بحساب النَّقْد، والدَّحْض (كارل بوبر). والنقد نوعان : داخلي يتعلق بالصوابية ((Validité، وخارجي يرتبط بالملاءمة Pertinence)). يجدُر بالباحث أن يأخذ « المسافة النقدية » عند « المراجعة النظرية »، التي ليست عرضاً، طويلاً، وعريضاً، لكل الأدبيات بقدر ما هي انحياز لما منها يصُبُّ في الإشكالية بصفة خاصة، ولما هو منها متلائم مع الفرضية، ومنسجم مع المقاربة المعتمدة. بعد إخضاعها للفحص والنقد، تُصْبح الموارد النظرية هي المؤطرة للبحث في جوانبه الإمبريقية، أو التجريبية.
قلتُ أيضاً : إن « الأسلوب هو البحث ».وللبحث صفات تتعلق بالشكل عامة، وبالأسلوب خاصة. الشكل، يقول فيكتور هوجو، هو « المضمون يطفو على السطح ». الأسلوب تُحدِّدُه اللغة التي هي منظومة من المفردات، والمصطلحات، والمفاهيم، ومن القواعد. لغة البحث لغات. الجداول الإحصائية، المنحنيات، المُؤطِّرات، أدوات تعبيرية مكملة، لا يجوز الإسراف فيها، وينبغي اختيارها بدقة، والاقتصار على ما فيها من قيمة مضافة. الجملة البحثية جملة مفيدة، دالة، دقيقة، خالية من المحسِّنات اللفظية، ومن صيغ المبالغة. مبتدأ وخبر. يقول أرسطو : « La première qualité du style, c‘est la clarté »
وعن « أوجه الاختلاف » بين البحث والتقرير، قُلْتُ: البحث أسئلة، وخلاصات؛ التقرير أجوبة، واقتراحات. البحث تحليل، وتركيب معرفي، التقرير كشف، وتوصيات إجرائية. البحث استشكال، ونقد؛ التقرير، رصد، وإقرار. البحث سابقٌ على التقرير، يُغذِّيه معرفياً، ويمُدُّه بالنظريات، والمفاهيم، والأدوات؛ التقرير حلقة وصل بين البحث الأساسي وبين الترجمة التطبيقية لخلاصاته، وتحويلها إلى اجراءات عملية، وإلى سياسات عمومية. من ثمة، كان على البحث أن يظل وفياً لغاياته المعرفية، مُتوسِّلاً بأدواته المنهجية، مُتقيِّداً ببروتوكولاته البحثية، لكي لا يتيه، وتضطرب قواعده، وحتى لا يضيع العِلْم بين اثنين : بريق الصيغة التقريرية، وهيمنة المعرفة السهلة، والثقافة السريعة.
ـ 4 ـ
في العرض الذي ألقيْتُه بكلية العلوم القانونية، والاقتصادية، والاجتماعية، أكدال يوم 27 مايو 2021، تحدَّثتُ عن بعض المؤشرات الدالة عن التحوُّل الذي بدأت تعرفه منظومة البحث الجامعي من حيث الشكل والمضمون. ومنها تسرُّب « الصيغة التقريرية » إلى بنية البحث الأكاديمي، وهو بدعة، وضلالة، وخروج عن القاعدة البحثية الأصلية. هذا « التسرُّب » الذي أضحى شائعاً، أفْترضُ أنه ينْسحب على جُلِّ البحوث في العلوم القانونية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية. هناك « تسرُّبٌ » آخر لا يقل شيوعا ًيخُصُّ البحث الجامعي في مجال الاقتصاد. في رحاب كلية الاقتصاد والتدبير بجامعة الحسن الأول سطات كان لي شرف إلقاء المحاضرة الافتتاحية ل «الدكتوريال » في دورتها الأولى، وذلك يوم الخميس 2 يونيو 2022، تحت عنوان : « البحث في العلوم الاقتصادية والتدبير : تحليل استرجاعي ».
جاءتني الدعوة، باسم الكلية، عن طريق الأستاذة هدى الأحمر التي أخْجلتْ تواضُعي بكلمات رقيقة تنمُّ عن طيبة روح، وحسن طوية. سهر على تنظيم اللقاء، الذي افتتحه العميد جمال الزاهي، الأستاذ هشام جيكي، رئيس المركز المغربي للتنمية، وقام بتسيير الجلسة الأستاذ هشام البيض.
تحدثتُ عن « السردية » البحثية في بلادنا التي مرَّت من محطات مختلفة، وعرفتْ نزوحاً من إشكالية التنمية (في الستينيات والسبعينيات) إلى سؤال النمو (في التسعينيات)، ومن المقاربة الماكرو اقتصادية (مجال السياسات العمومية) نحو المقاربة الميكرو اقتصادية (مجال المقاولة، والتدبير الخاص)، ومن المنهجية الهوليستيكية، البنيوية، والتاريخية صوب المنهجية الفردانية، الوحدية، الظرفية، والآنية. بعبارة، من الاقتصاد السياسي إلى علم التدبير، والتسويق. مجالان متجاوران، بينهما وصل، وفصل، تداخُل، وتخارُج. الاقتصاد أصل، والتدبير فرع.
قلتُ : « الجامعة بلا شرط »، لكن البحث الجامعي مُقيَّد ب «الشرط المنهجي » : مُلاءَمة الإشكالية، وُثوق الصلة بين الفَرَضيَّات وبين الأجهزة المفاهيمية والنظرية والإجرائية، صِدْقية العملية الاستنباطية أو الاستقرائية، بناءُ منظومة الخُلاصات على قاعدة الُمقدِّمات حسب الصيغة الرياضية : ((Si X, alors Y).
البحث عملية اسْتِشْكالية، الأسئلة فيها هي المُوجِّه لسيرورة التحليل والتدليل، سواء بالافتراض، أو بالتوْصيف. والإشكالية صياغة ل « سؤال بحثي » يستوجب الجوابُ عنه استيعابَ الآليات المعتمدة في الإنتاج المعرفي. الإشكالية هي التي تحدد شروط الموضوع، وترسم جغرافيته، وحدوده؛ هي تنسيبٌ للبحث، وتعيينٌ له في المكان والزمان. التحليل هو الكشف عن نوع ية العلاقة بين الأحداث، والوقائع، والظواهر. لكن وجود الصلة لا يعني، بالضرورة، وجود علاقة سببية ((Corrélation n‘est pas causalité. البحث صنفان : معياري، ووضعي. المعياري « ما ينبغي أن يكون »، الوضعي يهتم ب « ما هو كائن ». للفرضية، في البحث ذي الطبيعة المعيارية، مكانة محورية. التحليل يؤكد الفرضية، أو يدْحَضُها، ويُفنِّدُها. الفرضية في الصنف الوضعي لا وجود لها. النتيجة، أو الحقيقة، لا تتضح سوى بَعْدياً، عند نهاية التحليل، الذي هو تحليل استقرائي، من الجزء إلى الكل، ومن الخاص نحو العام؛ عكس المقاربة النظرية التي توظف المنهاج الاستنباطي، والاستنتاجي (Déductif) الذي ينتقل من الكل والعام إلى الجزء والخاص.
تحوُّل آخر عرفته المنظومة البحثية نحو الاقتصاد القياسي، والكمي، والنمذجة. وهو تحوُّل محمود، إلا أنه يتطلب، من بين ما يتطلب، إخضاعَ النماذج، التي لا تخرج، في الأغلب الأعم، عن نماذج التوازن العام المحسوب، أو العشوائي الديناميكي، لشرطي الصوابية، والملاءمة، والنظر إليها ب « المسافة النقدية » المطلوبة. النماذج القياسية ليست سوى أدوات، وما كل الأدوات صالحة لجميع الاستعمالات.
« الملصقات العلمية » التي طالعتُها في كلية الاقتصاد والتدبير بسطات تحمل مشاريع بحثية واعدة لجيل جديد من الطلبة الباحثين، ومن الأساتذة المؤطرين. في أعْيُنهم إشراق، وتوقُّد، ورغبة في التفوق، والتميُّز. سبق أن قلتُ : الجامعة بلا شرط، والبحث لا يكون بلا قيد. وأما التَّميُّز فله أسباب، ومدارج منها « البيئة البحثية » الملائمة، والمتمايزة، كما سيأتي ذكره.
( .. يتبع )