10 ـ أسباب النزول
يعود الراوي على بدء فيقول : في البدء كانت الأزمة. وكان الحديث عن الأزمة، أزمة التنمية، أو أزمة النموذج التنموي في المغرب ، وهو حديث قديم، ترْشَحُ به كثير من الدراسات والأبحاث الجامعية، وغير الجامعية منذ الثمانينيات من القرن الماضي. لكنه في الأدبيات الرسمية كلام جديد وغير مسبوق، إذ إن « عُقْدة اللسان » عند المسؤولين لم تنفك سوى عندما أعطى الملك الإشارة لإعادة النظر، رأساً على عقب، في “النموذج التنموي” الذي لم يعد يفي بالمطلوب (الخطاب الملكي أمام البرلمان، أكتوبر 2017).
قبل هذا التاريخ، كانت المفردات المتواترة في الخطاب تشير إلى « بعض الاختلالات » التي تعرفها « بعض السياسات العمومية »، وإلى العجز الذي تشكو منه « بعض القطاعات »، وإلى القصور في إنجاز « بعض المشاريع »، إلى غير ذلك من “السلبيات المعزولة”، و « الأعْطاب الجانبية » التي لا تكفي لكي يرقى التشخيص إلى مستوى الأزمة النسقية. الخطاب الملكي ذهب إلى أصل الداء، وتحدث عن « النموذج الذي استنفذ إمكانياته »، وعن الحاجة إلى بلورة نموذج جديد للتنمية أفصح عن بعض معالمه : « نموذج مندمج، قادرعلى الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، والحد من الفوارق بين الفئات، ومن التفاوتات المجالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية ».
قالوا : التشخيص الذي وضعته « اللجنة » ليس بالجديد، ولم يكشف عن اختلالات لم تكن معلومة. يقول الشاهد : هم على حق، فما قامت به «اللجنة»، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، هو، من جهة، « تجميـع المسـاهمات، وترتيبهـا وهيكلتهـا، وبلـورة خلاصاتهـا، فـي إطـار منظـور اسـتراتيجي شـامل ومندمـج » (خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة، 12 أكتوبر 2018). وهو، من جهة ثانية، تشخيص « ذاتي » للشروط « الموضوعية » للأزمة، وتشخيص « متعاطف » مع الرغبة الوطنية في التجاوز. جاء في التقرير أن النموذج التنموي المغربي يشكو من أعْطاب تُسبِّب في تذويب المسؤوليات، وضعف الانسجامية والالتقائية بين الفاعلين، وفي البُطْء الذي يعرفه إيقاع الإصلاحات. أولا، فُقْدان الرؤية الاستراتيجية المندمجة والشاملة، وينْجُم عن ذلك ضعف الانسجام على مستوى تصوُّر الإصلاحات وتنفيذها، وعلى مستوى تنزيل السياسات العمومية وتطبيقها من جهة، وغياب مرجعية مشتركة للتنسيق بين الفاعلين من جهة أخرى. ثانياً، بُطْء التحوُّل الهيكلي للاقتصاد المغربي، ومن مؤشراته تدنِّي مستوى الإبداع و الاستثمار في القطاعات القادرة على خلق مزيد من الثروة، ومن مناصب الشغل؛ ضعف الضبط والتقنين؛ هيمنة منطق الريع في بعض القطاعات، ومحدودية التنافسية. ثالثاً، نقص الخدمات العمومية التي تتوفر فيها شروط الجودة. التشخيص عينُه تختزله المفردات العفوية الواردة في « المحاضر الحرفية » لآراء المواطنين الذين استمعت إليهم « اللجنة » (ص 20 من التقرير العام) : «هنـاك مـن يتوفـرون علـى كل شـيء، وهنـاك مـن لا يملكـون أي شـي »، « جُزُرٌ من النجاح والثروة في محيط من البُؤْس»؛ « نظامُنا التعليمي يقتل الإبداع »؛ « لا مال، لا علاجات »؛ « لدينا أفضل القوانين في العالم لكنها غير مطبقة »؛ « الفساد والغش والمحسوبية في تحصيل الضرائب، هذه هي المشكلة »؛ « يجب أن نحارب الإثراء غير المشروع، ونربط المسؤولية بالمحاسبة »؛ « أصبح الوقت ضدنا » .
في الجملة، يوجز الراوي، هناك قصور في النَّظر الاستراتيجي، والاستشرافي؛ خلل في البنية الاقتصادية الريعية، وفي أنماط الأداء والضبط؛ خصاص في المرافق العمومية، وعجز في الخدمات الاجتماعية. بين هذه المُخْرجات المتشابكة خيوطُها كان على « اللجنة » أن تجد المُدْخلات المترادفة لبناء الرؤية الوطنية، وإنشاء الطموح المغربي.
11 ـ الطموح المغربي
يقول الراوي : يمكن وصف الرؤية التي يتضمَّنُها النموذج التنموي الجديد، من حيث « منهجية الصياغة »، بأنها رؤية بنائية، وصياغة ذاتية، مغربية/مغربية، أو وطنية. فهي، بالمقارنة مع المنهجية المعتمدة من طرف مكاتب الخبرة الأجنبية، مقاربة تتسم بأربع سمات : أولاً، هي مقاربة تفهُّمية، أو مُتفهِّمة، بالمعنى الذي سبق تحديدُه. ثانياً، هي صياغة تشاركية، أو إشراكية، سواء عند الإعداد، أو عند تقديم النتائج (أنظر النموذج التنموي الجديد، الملحق ١). ثالثاً، هي رؤية تركيبية لرُؤى مختلفة، توفيقية بين مواقف متباينة، وفي النهاية هي توافُقية حول الجوامع، والقواسم بين مكونات المجتمع. يشهد الشاهد أن التوافق حول صيغة التوافق لم يكن بالأمر الهيِّن داخل « اللجنة »، إذ كان البعض يميل كل الميل إلى مبدأ « المساومة » أو « التسوية» ((Compromis. التحفُّظُ عينُه من جدوى التوافق سوف يرِدُ في أكثر من «قراءة » ل « التقرير العام » بعد صدوره. بالنسبة إلى الشاهد، التوافق لحظة تأسيسية، أو مفصلية، نطاقُه محصور في القضايا الوطنية الجوهرية، في الخيارات الكبرى، وفي الطموحات الاستراتيجية. يكون التوافق حول المشترك الوطني، وعلى ما وصفه السارد، في سياق آخر، ب« الضروري من التنمية ». « التوافق العقلاني » الذي يأتي نتيجة « نقاش عمومي » واسع ومنظم (هابرماس) يُمْسي، في مثل هذه « الوضعيات البنائية »، هو الصيغة الأنسب لتجاوز « الخيارات الجماعية المستحيلة » (Kenneth Arrow)، التي ترجع إلى تعارُض المصالح، والأكثر « معقولية » للتوصل إلى « نموذج تنموي » يُرْضي، ويرضى عنه الجميع. رابعاً، « الرؤية الاستراتيجية » التي جاء بها تقرير « اللجنة » تقوم على التكامل العضوي، العمودي والأفقي، بين « الدولة القوية »، وبين « المجتمع القوي ». « دولة قوية، وعادلة »، و « مجتمع قوي، ومسؤول » يضيف التقرير. تضافُر « الدولة القوية » بأدوارها المختلفة (دولة إنمائية، استراتيجية، حامية، ضابطة)، و«المجتمع القوي » بكافة مكوناته هو الشرط اللازم لتحقيق الطموح التنموي الذي تتطلع إليه بلادنا. يُكثِّف التقرير «مغرب 2035 » في خمسة طموحات متكاملة، متراكبة، مندمجة يشُدُّ بعضها بعضاً، وهي مُبيَّنة في « خيارات » استراتيجية، و « رهانات » كبرى : « مغرب الازدهار » و « خيار التحول الاقتصادي »؛ « مغرب الكفاءات » و « خيار التمكين البشري »؛ « مغرب الإدماج » و « خيار الحماية الاجتماعية »؛ « مغرب الاستدامة »و « خيار الانتقال البيئي »؛ « مغرب الجرأة » و « رهانات البحث والابتكار، والرقميات، والطاقة المتجددة، والسوق المالي، وصنع في المغرب ».
طموحات، وخيارات، ورهانات تُشكِّل البنية المعيارية للتنمية، ومُدخلاتها الأساس، وقد لا يختلف اثنان حولها. الجديد يكمن في الطبيعة الهندسية المصاحبة لها. وهي على صنفين: هندسة رأسية، وهندسة أفقية. الأولى، وهي المعتمدة في السابق من خطط التنمية ، هندسة تراتُبية، تعاقُبية، وتبعية. الأولوية تكون فيها للنمو الاقتصادي، به تتحقق الأهداف الأخرى الاجتماعية، والثقافية؛ كما أن الأولوية تكون فيها لرأس المال من حيث بنية التوزيع، بناء على « فرضية « الأثر الانتشاري » أو «جريان المنافع» من أعلى نحو الأسفل. الثانية، وهي التي استند إليها النموذج التنموي الجديد، هندسة أفقية،
كل الأهداف فيها متساوية من حيث الأهمية، متكاملة فيما بينها، تصبُّ كلها في التنمية، ولا يتم « التحوُّل » سوى بها مجتمعة، لا مُنْفصِلة، ولا مُجزَّأة.