1 ـ صيغَ في المغرب
عندما طلع النهار، رجع الراوي إلى النصوص “المؤسسة” ل”اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”. الخطب الملكية (١٣ أكتوبر ٢٠١٧؛ ١٢ أكتوبر ٢٠١٨؛ ٢٩ يوليوز ٢٠١٩) أولاً، تقف عند “المعيقات التي تحول دون تحقيق نمو اقتصادي عال ومستدام، ومنتج للرخاء الاجتماعي”. ثانياً، تدعو إلى إعادة النظر في النموذج التنموي الوطني. ثالثاً، تحدد مهام اللجنة في التقويم، والاستباق، والاستشراف، وفي”اقتراح الآليات الملائمة، للتفعيل والتنفيذ والتتبع، وكذا المقاربات الكفيلة بجعل المغاربة يتملكون هذا النموذج، وينخرطون جماعيا في إنجاحه”. في الخطب الرسمية أيضا خطة طريق مؤطرة لأشغال اللجنة، ول”منهجية العمل” التي عليها اجتراحُها. منهجية إشراكية، تشاركية، وإدماجية، تشمل المؤسسات، والأحزاب السياسية ، والمنظمات المهنية والنقابية، والمجتمع المدني، ولا تستثني في ذلك أحداً. سبق للراوي أن كتب عن الكيفيات التي تتم بها صياغة الاستراتيجيات الاقتصادية الوطنية. إذا ما استثنينا المخطط الخماسي ١٩٦٠- ١٩٦٤ الذي أعدته حكومة عبدالله إبراهيم بإجرائية وطنية، فلسفةً، وتوجهاً، وخبرةً، وبعُدَّةٍ وطنية بامتياز، فإن أغلب الخطط والبرامج الكبرى، بخاصة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، هي من صياغة الخبرة الأجنبية، وحْياً، ونظراً، ومنهاجاً، وإجرائية. ومن النافل القول، إن الحصيلة غير المُرضية، والضئيلة في الأغلب الأعم، التي أكدها الملك في خطبه المتكررة، راجعة، في الأصل، إلى الصيغة التي بها تمت بلورتُها. لمكاتب الخبرة والاستشارة الدولية منوالٌ مألوف في إعداد السياسات العمومية، والاستراتيجيات القطاعية، يعتمد، كما هو معروف، “التحليل الرباعي”((SWOT Analysis، لعناصر القوة، والضعف، وللفرص المتاحة، وللتهديدات المتوقعة. هو منوال واحد، تُنْسَج عليه كل الوصفات الجاهزة في مجالات إدارة الأعمال، والتنظيم، والتدبير، والتسويق، والترويج، والتحول، وإدارة التغيير، إلى غير ذلك من المجالات. اللوحة الرباعية تجد لها تطبيقات ذات فائدة ونجاعة عندما يتعلق الأمر بالمقاولات التجارية، والصناعية. مع الموجة النيوليبرالية في التسعينيات من القرن المنصرم، سوف تمتد الخبرة الخاصة، الدولية إلى السياسات العمومية، كما تمتد النار في الهشيم. من المستوى الوحدي، الميكرواقتصادي، والخاص إلى المجال الكلي، الماكرواقتصادي، والعمومي. اللوحة نفسُها، والوصفة ذاتُها، والقياس عينُه، مع « وجود الفارق » وهو من « قوادح العلة » عند المناطقة. الخبرة الأجنبية خبرة برَّانية، ليس في مقدورها أن تتخبَّر أحوالنا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بالعمق المطلوب، ولا أن تحيط بالأسباب العميقة التي تحُدُّ من التحرير الأكمل للطاقات، والتدبير الأمثل للقدرات الكامنة في بلدنا. ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفْرك، وما صاغ النموذج التنموي المنشود مثل المغاربة, مع المغاربة, من أجل المغاربة.
3 ـ البَهَمُوت
صدر للشاعر العياشي أبو الشتاء ديوانٌ يحمل عنوان « البَهَمُوت » (باب الحكمة، ٢٠١٩). والبَهَمُوت اسم الحوت الذي زعموا أنه يحمل الأرض فوق ظهره. تساءل الشاهد، وهو ما يزال في دهشة البدايات: هل في مقدور النموذج التنموي الجديد أن يستوعب في تضاعيفه الطموحات المترامية، اللامتناهية التي يرنو المواطن، منذ زمان، إلى تحقيقها على أرض الواقع، هنا والآن؟ هل يكون الظَّهْر من الشِّدَّة لينُوءَ بأوزار المغرب المتراكمة، وبإخفاقاته المتعاقبة، وأوجاعه المُبرِّحة على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية بالخصوص؟ هل تستطيع اللجنة الخاصة، ب «ذكائها الجماعي»، أن تصوغ النموذج الأمثل ل « المغرب الذي نريد »، وأن يُحالفَ الحظُّ أعضاءَها فيما لم تُفْلح فيه، من قبل، خبرات ومكاتب ومؤسسات أجنبية دولية ذات الصيت الذائع؟ هل في الإمكان أبدع مما كان؟ قيل عن اللجنة، منذ البداية، إنها لجنة كفاءات، تحتوي على خبرات مختلفة، لكنها، بحسب البعض، فاقدة ل« الشيء »، ومن ثمة فليس في مقدورها أن «تُعطي» سوى نموذجٍ ذي طينة تقنية، جاف وبارد، لا لون له، نموذجٍ لن يفي بالمطلوب. قولٌ مردود، عند الشاهد، ذلك أن المهمة الموكولة ل «اللجنة » لا تقف عند « الخبرة»، وهي على كل حال محمودة، بل هي تمتد لتشمل « المساهمة » الواسعة، المكثفة، والمباشرة للمجتمع بكافة مكوناته، أفراداً وجماعات. يشهد الشاهد أن المواطن جاء طوعاً، من كل فجٍّ عميق، يبُثُّ همومه، وحاجاته، وأحلامه، وآماله أمام أعضاء اللجنة؛ كما جاء يجرُّ خيوط الخيبة، والإحباط، والمعاناة، والخوف من الغد، ومن صروف الدهر. وأن اللجنة أصاخت إلى الهيئات الدستورية، والأحزاب، والمنظمات المهنية، وإلى مختلف الفاعلين في المجتمع المدني، وقامت ب « تجميع المساهمات، وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج »، كما ينص على ذلك الخطاب الملكي ليوم ١٢ أكتوبر ٢٠١٨ . « الفعل التَّداوُلي » (هابرماس) هو الذي يضع الحدود ل « المقاربة التكنوعلمية »، ويُطوِّق عقلانيتها المطلقة، والصورية، بالمكاشفة، والمناقشة، والمجادلة المُفْضية، في آخر المطاف، إلى الفهم، والتَّفهُّم، والمُفاهَمة، وإلى بناء التوافق العقلاني، الاستراتيجي، لا « التوافق النفعي »، الآني، الذي حبْلُه قصير. بانخراط المواطن في عملية الصياغة، بكافة حلقاتها، تتلفَّعُ « الشرعية المعرفية » ب« الشرعية التشاركية »،كما يتلفَّع الشجر بالورق، ويُمْسي النموذج التنموي الجديد مِلْكيةً جماعية، عموميةَ الفوائد، وطنيةَ العوائد. المساهمة تكون بالمشاركة التي هي شرط من شروط المسؤولية. بالتملُّك الشعبي للنموذج التنموي الجديد يقْوى ظهر « البَهمُوت »، ويشتدُّ عوده. وإذا ب« الشيء » المصنوع، مثل ديوان الشاعر العياشي أبوالشتاء، من « أشياء » متباينة، متضاربة، ومتراكبة، « تتقاطع، تتداخل، تتوازى، وتتنافر »، إذا به ينصهر في بوتقة الإجماع الوطني، ويتحوَّل المغرب إلى بحرٍ طَمُوح الموْج.