ويستمر الوحش، وحش الاحتلال، في القتل والتدمير في غزة، لا يرتوي من الولوغ في الدماء البريئة، ولا يرعوي عن المضي في الإبادة الجماعية حتى آخر نبض.
الغرب يشاهد مشاهد الإفناء، وكأنها لهو ولعب، فهو من خلق الوحش من نار، هو من صنعه على عَيْنِه، وفطره على الشر المطلق. لم يبق شيء من ألواحه، أحرقتها المحرقة التي أحرقت غزة عن بكرة أبيها.
العرب يرون صروف النكبة الثانية، ولا أحد يلوي على أحد. “طوفان الأقصى”، في ظنهم، كان “رهاناً أخرق”، سرعان ما ارتدَّ مذبحة لم يعرف لها التاريخ نظيراً. من اجترح “الخطأ”، ولم يحتسب العواقب، عليه وحده تقع المسؤولية، هكذا يقولون، متناسين أن الخطأ، كل الخطأ، يكمن في الاحتلال. بل إن البعض “وجد في القوم مُثلَةً لم يأمر بها ولم تسُؤْهُ”. البعض الآخر منهم وجد في النازلة فرصة لبَتْر أذرع عدُوِّهم (إيران) بأيدي عدُوِّ عدُوِّهم (الكيان المحتل)، لا بأيديهم. بعد غزة لبنان، نفس مشاهد التدمير، والتقتيل، والاغتيال. مشاهد أرادها جيش الاحتلال مدخلاً دموياً نحو صياغة “شرق أوسط جديد” جاثٍ تحت رحمته، ووطأته، ووصايته. وبعد لبنان، جاء الدور على سوريا لتسقط “بيضة القبّان” من معادلة محور المقاومة. ابتهج الاحتلال بنصر يقول إنه صانعه، وهو المخَطِّطُ له. ولأول مرة منذ “السابع من أكتوبر” بدأت بعض الأنظمة العربية تستشعر الخوف على مصيرها، وترى الهيمنة التركية تحل محل الهيمنة الإيرانية، بينما هي غافية في كمونها، مستغرقة في سلبيتها، مستسلمة للرياح تلهو بها وتهوي بها في المجهول.
ها محور المقاومة منفصل، منفرط، مكسور الجناح، وهو ما كانت تبغي جلُّ الأنظمة العربية. وها المقاومة في غزة، وفي لبنان بدون سوريا الدولة الظهير، وبدون إيران الدولة الماسكة بالخيوط، الداعمة بالمال والسلاح، فهل هلكت المقاومة، هل وهنت قواها، هل تراخى صمودها، هل ضعف بأسها؟ هل انهزمت
مخطئٌ من يراهن على هزيمة المقاومة، فالمقاومة تكون حيث يكون الاحتلال، ولا تكون يوم لا يكون. هو السالب، وهي الموجب، هما معاً في صراع الأضداد، صراع بين وجودين لا ينتهي سوى بنَفْي النَّفْي، نفي الاحتلال إن عاجلاً أم آجلاً.
عرف العرب هزائم متوالية منذ النكبة الأولى، هي في المحصلة هزائم أنظمة، وانهزام جيوش نظامية. جيش الاحتلال في الحروب النظامية “جيش لا يُقهَر”، إلى أن يثبت العكس. لكنه أمام المقاومة عاجز كل العجز عن تحقيق “النصر المطلق”، الذي كان يراه قريباً، ويريده سريعاً في كل من غزة، ولبنان.
قوة المقاومة نابعة من ذاتها المستقلة، وصمودُها ينشأ، بالأساس، من قدراتها الذاتية على استنزاف الاحتلال في المدة الطويلة، وليس بالاعتماد على المعادلات الدولية، وعلى الاستراتيجيات الإقليمية، ولا حتى على “ساحات الإسناد”.
اللاتماثُل في القوة لا يُثْني المقاومة عن الفعل. ومن يقول إنَّ مِنْ باب العقل السعيُ أولاً إلى إعداد التماثُل قبل أية مواجهة مع الاحتلال فهو إمّا واهم، وإمّا “غبي عقلاني” (بتعبير أمارتيا سين)، لأن الاحتلال يشلُّ أسباب القدرة على بناء القدرات، ولا يسيغ في حَلْقه سوى المستسلم الذي طرح سلاحه، والخاضع الذي فقد ظله.