قبل سنوات شاهدتُ برنامجاً أمريكياً يعرض تجارب اجتماعية مع كاميرا خفية تصور التجربة خلسة. وبقي في ذاكرتي المشهد الذي كانت فيه امرأة تعنَّف من قبل رجل في مكان عام، حيث هرع لنجدتها أكثر من شخص من المارة، مظهرين ازدراءهم واحتقارهم لتصرف الرجل، بل ان بعضهم اظهر عدائية وتهجماً كاد يودي بالممثل المسكين الى الضرب والأذى. غير أن ردود الأفعال هذه اختلفت تماماً حين عُكس المشهد، فحلت الممثلة مكان المعنِّف، وصارت تضرب الرجل وتصرخ في وجهه، بينما يقف هو لا حول ولا قوة متلقياً ضرباتها دون محاولة الدفاع عن نفسه. كان الناس أمام هذه الحالة يمرون دون اعتراض، ساخرين، ولعلهم متعجبين، لكن دون أن يحتجوا، بل حاول بعضهم تحفيزها بحركة من يده، أو بابتسامة مشجعة.ولأن لدي شغف خاص بالصور غير النمطية، ولا سيما تلك الاجتماعية منها، فقد أثار الموضوع اهتمامي، غير أن محاولة البحث على نحو متعمق في موضوع كهذا تبدو صعبة لقلة المصادر الموضوعية. فماذا لو ان الآية عكست بالفعل وبات الأفراد الأقل قوة في المجتمع هم الطواغيت؟ النساء والأطفال على سبيل المثال. هذا على الرغم من ان صورة المرأة في الأدبيات الدينية مثلاً، غير بعيدة عن مفهوم الشر، فهي في الغالب المحفز الرئيسي للذنوب والآثام بل وللاقتتال والخطيئة في المطلق؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن النماذج النسائية الإيجابية التي تحفزها المخيلة الدينية كلها تصب في صالح المؤسسة الدينية، كالأم مثلاً، أو القديسة/ الراهبة (الأدبيات المسيحية)، المرأة المحجبة (الأدبيات الإسلامية)، وغيرها من الصور النمطية للأنثى الرقيقة المغلوبة على أمرها دائماً لكونها الجنس الأضعف، لكنه أيضاً وفق هذه النظرة الجنس المطيع غير المتمرد، والمتقيد بتطرف بالهيكل الاجتماعي المعدّ مسبقاً. لكن ألا يسع هذا الكائن الضعيف إلحاق الأذى بالآخرين؟ ألا يسع المرأة الاستفادة من الصورة النمطية للأنثى المغلوبة على أمرها مثلاً لكي تمارس حيلاً اجتماعية وأخلاقية لا يمكن فك طلاسمها بسهولة؟! وهل بالإمكان الحديث عن امتياز أنثوي في جهة من العالم تُقمع فيها المرأة بل وتعنف بكل الطرق النفسية والجسدية التي تبررها المجتمعات الذكورية وتشجع عليها؟!في واقع الأمر فان التوازن في هذا المجال نادر جداً، فنحن إما نرى امتيازاً أنثوياً مبالغاً فيه، وإما نشهد قمعاً للمرأة يصل للتعنيف الشديد بل وحتى القتل أحياناً. الصورة تبدو الى حد كبير غير معتدلة، وقد يثير الانتباه أن الطرف الأول هو على النقيض التام من الطرف الثاني، لكنهما نقيضان يصبان في النهاية في محط واحد، بغض النظر عن تعدد الأساليب. فالمرأة في المجتمعات الذكورية يمرنها المجتمع على عقلية “الجارية”، مهما وصل بها المستوى التعليمي أو حتى ارتقى بها السلم الاجتماعي. أما في المجتمعات المتحررة فتُعامل وفق منظور صوابي فج غير قابل للنقد، إلا أنه في نهاية المطاف يأتي بنتائج مشابهة جداً لتلك التي تخلقها المجتمعات الذكورية. مثلاً العديد من الإناث في المجتمعات الذكورية ستحاول نيل ما تريد بأنوثتها/جسدها، حتى وان كان جسدها يوفر الابتسامة فحسب، ولسانها يقطع بعض الوعود الكاذبة لذكور أو مفاهيم ذكورية ستصعد على أكتافهم بسهلة ويسر لكن أيضاً دون استحقاق أو أهلية. وفي المقابل فان المرأة التي تتمتع بالامتياز الأنثوي في المجتمعات المتحررة تتصرف بالطريقة ذاتها لكن بأسلوب مغاير ليس إلا، ومتى ما عن لمثل هذه الأنثى التواطؤ مع المجتمع ضد ضحية تختارها فستسحقه بادعاء أنه قد نال من كيانها الأنثوي غير القابل للانتقاد. في رواية معروفة تحولت الى فلم شهير يُدعى “الفتاة المفقودة”، وسأحرق هنا بعض أحداث الفلم. تبدأ القصة برجل يبحث عن زوجته الجميلة والموهوبة التي اختفت في ظروف غامضة، وسرعان ما تأخذ المؤشرات والشكوك كلها تحوم حول الزوج، ليتبين فيما بعد أن التعاطف الهائل الذي نالته الزوجة كله غير مستحق، فهي من فبرك قصة الاختفاء بالأساس، بل وكادت تفبرك مقتلها أيضاً، كنوع من الانتقام من الزوج فقط لأن في نيته تركها. المعضلة الرئيسية التي واجهت الزوج، هو اضطراره التزام الصمت أمام كل ادعاءات زوجته، لأن المشكلة تكمن ببساطة في استحالة تصديق الناس لما يتعرض له! فالصورة النمطية المعتادة للرجل، هي أنه المعنِّف لا المعنَّف؛ وهو صاحب المزاج السيء، وغالباً ما يكون الهدف الرئيسي للوم والتقريع، حتى وإن لم يعاون هذا اللوم في تأديبه ودفعه لاتخاذ خيارات وقرارات أفضل. إلا أن الرواية/الفلم في واقع الأمر ليسا مجرد خيال كاتبة حذقة، بل توظيف ممتاز من الكاتبة لاضطراب نفسي معروف يدعى “باضطراب الشخصية الحدية”، وهو نوع من الاضطرابات النفسية التي تصيب الإناث بنسب أكبر بكثير من الذكور، وفي الحالات الشديدة يمكن أو يودي الى الانتحار، لكن في حالات كثيرة جداً فان الأذى الذي تمارسه الشخصية الحدّية على الضحية يكون مهلكاً ومستنزفاً نفسياً وجسدياً. والضحية هنا هو رجل سيخجل من الاعتراف بالتعنيف النفسي الشديد الذي يتعرض له، خوفاً من نظرة المجتمع لدوره الجندري كذكر يتمتع بالقوة والمناعة ضد مثل هذه الأمور “التافهة” أمام القاعدة الاجتماعية التي تحكم على المظهر والسلوك الذكوري الذي يفترض أن يتمتع به، فما بالك وهذا التعنيف آتٍ من الكائن الأضعف! ترى ما هي النظرة التي سيطالع المجتمع بها الرجل إذا ما تحدث عن تعنيفه وحملات التشويه مثلاً التي تشنها عليه الشريكة متسلحة بالامتياز الأنثوي الأكبر، الدموع، التذلل، وادعاء العجز والخضوع. ألا يمكننا هنا أن ندعي وجود امتياز خفي، لعلنا سندعوه “بامتياز الحلقة الأضعف”، يدعو الجميع للحذر من خدش هذه الذات الهشة. العنق الملتوي، النظرة الخاضعة، العيون اللامعة بدموع تثير الشفقة؟!غير أن المشكلة تكمن أيضاً في أن العديد من النساء يتواطأن دون وعي مع الأفكار التي تنمطهن وتجعلهن عرضة للتمييز، سواء أكان بالمغزى الإيجابي أم السلبي. ولهذا فان التشجيع على فكرة التعاطف والتكاتف مع المرأة بالمطلق، سواء أكانت على حق أم باطل، بحجة مناصرة المرأة هو أشبه بحرب صغيرة تشنها المرأة على ذاتها دون أن تدرك مساوئها! فالمرأة المتواضعة في محتواها لا تستحق التشجيع لأنها تسوغ للمفهوم الذكوري السائد عن المرأة ضعيفة المحتوى بشكل افتراضي! والمرأة التي تحاول كسب التعاطف عبر أسلحتها الأنثوية في قضية غير عادلة، قطعاً لا تستحق مثل هذه المشاركات الوجدانية فهي متلاعبة ولا تتمتع بنظرة صحية لذاتها، ولديها القدرة على ليّ الحقائق والظروف لصالحها بطرق غير مشروعة. ولأن العديد من الأنماط الاجتماعية تبدو صعبة الهدم أو التكسير، فان هذا المقال لو كتبه رجل مثلاً سيكون استقباله على نحو مختلف كلياً عنه حين يصدر من امرأة. فتلك صوابية سياسية قد ضلت طريقها، ولا تقوَّم أو تُصحَّح بالضد النوعي بالضرورة!