لا يوجدُ جنسٌ أدبيٌّ مُحدَّدٌ يمكنُ أن يكُونَ مُناسبًا للمرأة ، أو على مقاسها النفسي والاجتماعي عن سواه من الأجناس ، أو الأنواع ، أو الأشكال الأدبية الأخرى المطرُوحة في الحقل الأدبي .
فالمرأة بطبيعتها بوَّاحةٌ في أية ثقافةٍ ، وهي أكثرُ بوحًا واعترافًا من الرجل الذي هو صُندوقٌ مغلقٌ .
وأنا بطبيعتي لا أعوِّلُ كثيرًا على من يعتقدُون أو يعتقدن أنَّ الكتابةَ بوحٌ واعترافٌ فقط ، وتحرُّرٌ من ربقةِ المُجتمعِ الذكُوري ، ونضالٌ حول قضايا المرأَة ومشكلاتها التي تربكها وتحد من حريتها
، إذْ هي في الأصل بناءٌ فنيٌّ محْكمٌ ، يحتاجُ إلى لُغةٍ ، وعمارةٍ ، ومُخيَّلةٍ جمُوحٍ ، وأعرفُ أنَّ هناك كاتبات لا يستطعن الكتابةَ خارج ذواتهن ؛ ولذا فهن يُكرِّرن تجاربهن وحيواتهن على الورق ، وفي النهايةِ يتوقَّفن عن الكتابةِ ، من فرطِ التكرارِ ، وتقليدِ الذاتِ ، والاعتماد فقط على التجاربِ التي مهما كثرتْ وتعدَّدتْ فهي محدُودة ، ويمكنُ أن تحتملَها روايةٌ أو روايتان ، والمَحَك عندي هو البناءُ في الفرَاغ ، أقصدُ أن تهندسَ الكاتبةُ في الفراغ ، أي تخلُق من عدمٍ ، وليس اجترار الذكريات ، وسرد الحياة ، لأنَّ الجدات هُن الأمهرُ في سرد ما مررن به ، ومع ذلك حكاياتهن لا تدخلُ ضمنَ النصِّ الأدبي ، وتظلُّ حكاياتٍ شفهيةً غير مدونة تتداولها العائلة فقط .
كما أنَّني لا أحبُّ أن تأتي الكتابةُ لدي النساء بعد الفراغ من العمل ، أو من تربية الأولاد ، وانتهاء مراحلهم التعليمية ، أو التخلُّص من الزوج بالانفصال أو الطلاقِ ، أو الوصول إلى سن التقاعد ، حتى لو كانت الكاتبةُ تعيشُ في مُجتمعاتٍ مقفُولةٍ ومُغلقةٍ وتقليديةٍ ، لأنَّ الكتابةَ حياة ، ومشرُوع عُمر ، وموهبة لا تحتملُ التأجيلَ ، إذْ هي تهْجُمُ وتُوجِّه ، وتفرضُ سطوتَها على من يحبها ويستدعيها ويريدها ، هي عملٌ موازٍ لحياة من يكتبُ .
( أعرفُ كاتبةً شهيرةً إعلاميًّا ، كل نتاجها مقالات في كُتبٍ ، قالت لي : عندما أتقاعدُ سأتفرغُ لكتابة القصة القصيرة والرواية ، ومرت سنواتٌ طويلةٌ على تقاعدها ، ولم تكتب حرفًا واحدًا في الأدب ، وظلت تواصلُ كتابة المقالات ، وبُكاء تقاعدها من الوظيفة التي كانت تمنحُها وجاهةً وسط الناس )
إن كثيرًا من الكُتب التي صدرت ليست كُتبًا ، وكثيرًا من ” الكاتبات ” لسن كاتباتٍ ، بل هُن ” ستات بيوت ” ، لديهن وقتُ فراغٍ طويل بعد الانتهاء من مهام الحياة مع الزَّوج والأولاد .
أعرفُ أنَّ الكتابةَ تحتاج إلى تفرُّغٍ ، ووقتٍ للقراءةِ والتأمُّلِ ، كما أنها لا تحبُّ الشُّركاء معها ، لكنَّها فيضٌ لا يُؤجَّل لما بعد ” التقاعد ” ، وأجمل الكتابات هي التي كُتبتْ في سن ” الشَّباب ” ، إذْ هي سن الحماسةِ ، والنضج ، والشَّطح ، والجُمُوح ، والجُنُون الأدبي ، فالكتابة بعد التقاعد لا تحتاجُ إلى خبرةِ السَّنوات ؛ لأنهُ لا توجدُ خبرةٌ في الكتابةِ من الأساس ، ولا تحتاجُ إلى التأنِّي والمُراضاةِ ، والمُواربةِ ، والمشي على الحبال ، وحكمة العمر .
وأنا لا أعوِّلُ أيضًا على كتابةِ الهِجاء أو الاقتصاص من الزوج ، أو الرجُل عُمومًا ، أو كتابة التلسين أو المُلاَسَنَةٌ ؛ لأنَّ الكتابةَ أسمى وأعلى من الشَّتم والسِّباب ، والانتقاص من الآخر .
والسُّؤال الآن ، هل الشاعراتُ قليلات العدد في بلداننا العربية والعالم ، نعم هن قليلاتٌ مُقارنةً بالشُّعراء ، على الرغم من وجُود شاعراتٍ مُهمَّات وبارزات ولافتات في العالم ، كما أنَّني أذكرُ أنه عندما ظهرتُ في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي كانت الشاعراتُ قليلاتٍ ، ليس في جيلي فقط ، ولكن في كل الأجيال ، لكنَّ الأمر اختلف الآن – على الأقلِّ في مصر – فصارت الأسماءُ كثيرةً ولافتةً ، إضافةً إلى كاتبات الرواية .
ومنذ الشَّاعرة الإغريقية سافو (630 – 570 قبل الميلاد ) – وهي أقدم من كتبنَ الشِّعْرَ في العالم – ، والشَّاعرات كأنهن يُحْرَجْن أو يخجلن أو يخفن الشِّعْر ؛ لأنهُ – على العكس من الرواية – يهتكُ السترَ ، ويكشفُ المحجُوبَ ، ويفضحُ المَخفيَّ ، ربما للجُوء أكثر الشَّاعرات إلى كتابةِ الذات ، والخوضِ في التجربةِ الشخصيةِ ، بعيدًا عن استخدام الأقنعةِ والرمُوز ، وتوظيفِ الأساطير ، وقليلات هن اللواتي مَزَجْن بين ما هو شخصيٌّ ، وبين ما يعتمدُ في الكتابةِ على هندسةِ المعنى المُجرَّد أو المُطلق ، أو ما هُو وجُودي وإنساني .
فهل كانت وما زالت كتابةُ المرأة للسَّردِ أقرب إليها بحُكم الفطرة والطبيعة الأنثوية التي تمتازُ بالتفاصيلِ والشؤونِ الصَّغيرة والدقة المُتناهية في الصغر ، وأنَّ السَّرد يحملُ بوحها خُصوصًا أنه يتخفَّى تحت شخصياتٍ في العملِ المكتُوب ولا يعبِّرُ بالضرورة عن حال كاتبته ، بينما في الشِّعرِ قد تلجأ المرأةُ إلى الكتابةِ بأسماءٍ مُستعارة خوفًا من الاصطدامِ بالأسرةِ والمُجتمع وسُلطة العادات والتقاليد الصَّارمة والمُتشدِّدة ، إذْ هناك حساسية في ذكر الاسم الحقيقي والتصريح به ؛ حتى لا يسقطَ القارئُ النصَّ على كاتبته ، وأعرف أن هناك شاعراتٍ وكاتباتٍ قد انسحبن من المشهد قبل الإصدار الأول أو بعده ، والاحتماء بجدران البيت والعائلة .
ألم تكُن مي زيادة ( اسمها الحقيقي ماري زيادة ) حينما تريدُ كتابةَ قصيدةٍ شعريةٍ تكتبُها باللغة الفرنسية ، وهي العارفة باللغة العربية والمتمكِّنة منها ، لكنَّها رأتْ أنَّ الفرنسية يمكنُ أن تكونَ فيها أكثر جرأةً ومغامرَةً وحريةً ، كما أنها – في الأخير – تظل لغةً أجنبيةً .
فالشَّاعرة ملهِمة وملْهَمَة ، ومع ذلك يُشَكُّ في أمرِها ، أنها ليست هي من تكتبُ ، ولكن يُكْتَبُ لها ، وهذا أحد الأمراض الثقافيةِ المُنتشرةِ منذ زمنٍ بعيدٍ ، ولم نجد حلًّا لعلاج هذا المرض العضال المستفحل والمستشري ، والعابر للأجيال والأزمنة ، كأنَّ المرأةَ غير مُؤهلةٍ للكتابةِ والخَلْق والإبداع ، حيثُ لا يتقبَّلُ ” الرجال ” هذا الأمر ، كأنَّ المرأة خُلقتْ لتكون مُلهِمَة فقط ، بمعنى أن يكتبَ الشُّعراءُ فيها القصائد .
لهؤلاء أقولُ ماذا تقولون في هذا الشِّعْر لتَماضُر بنت عُمَرُو بن الْحَارِث السَّلَمِيَّة ، الشهيرة بالْخَنْسَاء ، ( 575ميلادية – 24 هـجرية / 645ميلادية ) : ” كأنَّهُ علمٌ في رأسه نارُ ” ؟
هذا الشِّعْر يؤكد أنَّ الشِّعْرَ ليس ذُكُوريًّا فقط ، بل إنَّ الشِّعر مُذكَّرٌ ومؤنَّثٌ ، والإبداع فنٌّ لا جنسَ له ، ولسنا في الجاهلية – التي ربطت الشِّعْر بالفُحُولة – « طبقات فحول الشعراء ” لابن سلّام الجمحي المتوفَّى في العام 847 ميلادي » ؛ كي يبرُز الشَّاعر ويتصدَّر المشهد الشعري وحده ، وغض الطرف عن المرأة الشَّاعرة . فتاريخ الأدب عرَفَ إقصاءً مقصُودًا ومُتعمَّدا لطردِ المرأة الشَّاعرة من جنَّةِ كِتابةِ الشِّعْر ، حيثُ غُيِّبَتْ بقسوةٍ ، وتم تهميشُها شِعْريَّا ، بل محوها من المُدوَّنةِ الشِّعريةِ العربيةِ عبر العُصور ؛ لذا بدا لنا أنَّ عددَ الشَّاعرات العربيات قليل .
وهل كلامي هذا يخصُّ الشَّاعرة والكاتبة العربية فقط ، بالطبع لا ، فهو ينسحبُ – أيضًا – على المبدعة الغربية ، ولنتأمَّل ما كتبته الكاتبة الإنجليزية المنتحرة غرقًا فرجينيا وولف (25 من يناير 1882 – 28 من مارس 1941ميلادية ) :
” إن أية امرأة تولد بموهبةٍ عظيمةٍ لابد أن تصبحَ مجنُونةً ، أو تنتحرَ ، أو تقضي أيامها وحيدةً في كُوخٍ مُنعزلٍ خارج القرية ، نصف ساحرة ، نصف عرّافة ، يخشاها الآخرون ويسخرُون منها . ذلك أننا بحاجةٍ إلى قليلٍ من الفهم ؛ لنتأكَّد من أنَّ الفتاة الموهُوبة التي تحاولُ أن تستخدمَ موهبتها لكتابة الشِّعْر ، سيخذلها الناس ويعوقونها ، وستعذبها وتمزِّقها غرائزُها الشخصية المُتناقضة ، بحيث إنها لابد أن تفقدَ صحتَها وسلامة عقلها “.
« إنَّ النساءَ لكي يكتبن ؛ بحاجةٍ إلى دخلٍ ماديّ خاص بهن ، وإلى غرفةٍ مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة.»
وما قالته فرجينيا وولف لم يعد كلامًا من زمنٍ مضى وانتهى ، لكنه للأسف ما زال واقعا نلمسه ونأسف له ، ولا بد من مقاومته والانتصار عليه .