الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب يمكن عنونته بأنه خطاب الترصيد للمكتسبات الديبلوماسية المغربية، العارمة والنوعية، لتكريس عدالة وشرعية قضيتنا الوطنية.. وهو، في بعده الآخر، خطاب التفعيل لمُقدَّرات المغرب وخاصة منها مُمكنات مغاربة العالم… وهي التي لها مساهمة فعالة في المسار الوطني المغربي، ببُعديه التنموي والديبلوماسي… واللافت، أن جلالة الملك لم يتحدث عن الرئاسة الجزائرية، نداؤه الأخوي لها ساري المفعول. جلالة الملك لا يستعجل تجاوبها معه… لكنه اختار في خطابه، ضمنيا، أن يمدها ويذكرها، بعناصر تساعدها على إنضاج قرارها بالانخراط في مسار سلمي أخوي مغاربي… يحقق نقلة نوعية في العلاقات المغربية الجزائرية، تأسيسا على تاريخ كفاحي مشترك وفتحا لأفق مستقبلي مشترك… ذلك التذكير، شمل مغربية الصحراء، الثابتة، والتي تحوز، اليوم تفهما وإسنادا ديبلوماسيا قويا، عمليا وازنا ومتنوعا… بفضل المبادرة السلمية المغربية، لحل المنازعة الجزائرية حولها بمقترح الحكم الذاتي… وبفضل قوة تلاحم إرادتي الملك والشعب، وإصرارهما على وحدة الوطن المغربي أرضا وشعبا… وقد كرس ذلك التلاحم مغربية الصحراء، حقيقة راسخة على الأرض ومبدأ وطنيا مقدسا… ثم انصرف جلالته إلى انشغاله القيادي، الملح والمألوف لديه… انشغال التصدي لتحديات التنمية في كل أبعادها، ولكل فئات شعبنا ولكل المغاربة في الوطن وفي خارجه… وتوقف في خطابه عند فعالية مغاربة العالم وقضاياهم، بعد تقويم حصيلة المكتسبات الديبلوماسية المغربية.
جلالة الملك وهو يعرض نوع وكم الإسناد الدولي لعدالة القضية الوطنية، بالإقرار المباشر بمغربية الصحراء، وبالتبني الصريح لمقترح الحكم الذاتي… ثمن تلك المنجزات الديبلوماسية، منوها بالدول التي انحازت لعدالة القضية الوطنية المغربية، ورتب عليها آفاق مثمرة في علاقات المغرب معها، وفي موقف مصارحة بأناقة ديبلوماسية ملكية، سيعود ليُلح على أن المغرب ينظر إلى العالم بمقياس التعاطي مع قضية الصحراء المغربية في علاقاته الديبلوماسية… ومن حقه أن يُطالب الدول المتأخرة عن الركب الدولي المناصر للمغرب في قضيته الوطنية، بأن تخرج من التباسات وإبهامات ديبلوماسية، تحافظ لها على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مع المغرب، دون أن تتحمل مسؤولية الوضوح في موقفها والذهاب به إلى مداه الأقصى… المدى الذي يفترض أن يتطابق مع تاريخ علاقتهما مع المغرب ومع استفادتها من تلك العلاقات… الدول المعنية بتلك المصارحة، لم يسمها جلالته، وهي حتما تعرف نفسها. ولعل الملاحظين سيفهمون أن الوضوح الملكي، بل الحزم الملكي، موجَّه إلى دول مثل تركيا، إيطاليا… وخاصة فرنسا… فرنسا التي تعرف مقدار حاجتها إلى المغرب في ظروف دولية متوترة، ومتقلبة ومفتوحة على اصطفافات سياسية، بل استراتيجية جديدة… ظروف دولية أدت، ضمن ما أدت إليه، إلى تلك الانتصارات الديبلوماسية المغربية… استنادا على التجدُّد في ممكنات المغرب ووعودها، الاقتصادية والاستراتيجية، وعلى انخراطه المتوازن والفاعل، في جريان ومخاضات الوضع الدولي… وفرنسا “تتجاهل” كل ذلك، وتواصل “ترددها” في قضية الصحراء المغربية… بل وتشن حرب “تأشيرات” ضد المغرب، في ما يشبه “قلقها” من الانحياز الدولي، العارم والوازن، لصالح المغرب… والذي “ربما” تفهمه إضعاف “لتفردها” به وإبطال لتأثيرها عليه… والحال أن تلك “الفرنسا”، هي المؤهلة، لصلاتها مع المغرب التاريخية، والاقتصادية والسياسية والثقافية، لكي تجني أوفر “الأرباح” من علاقاتها معه، على قاعدة رابح-رابح، إن هي استوعبت أن المغرب، اليوم، هو غير المغرب الذي “تكاسلت” في تجديد معرفتها بممكناته ومؤهلاته وصرامته… ذلك المغرب الجديد الذي يمتد نسيجه الاجتماعي، بحيوته وجداراته، إلى فرنسا، عبر “المهاجرين” (سابقا) المغاربة المقيمين في فرنسا، بأجيالهم المتعاقبة… والذين انتزعوا لهم موقع المساهمة الإيجابية في الحياة الفرنسية، ونسجوا، في العلاقات المغربية الفرنسية مساحات تفاعل، قابلة لتغذيتها في الاتجاهين…
مغاربة العالم، وضمنهم مغاربة فرنسا، توجه إليهم جلالة الملك في خطابه السامي… لينصفهم… مُثَمِّنا إسهامهم في بلورة المكتسبات الديبلوماسية المغربية انتصارا لقضية الصحراء المغربية… الإسهام المباشر وغير المباشر، والمعبر عن التشبث الشعبي الوطني لكل المغاربة داخل المغرب وخارجه، بقضية الوحدة الوطنية المغربية، أرضا وشعبا… ومبرزا فعاليتهم في المسار التنموي المغربي… فعاليتهم، التي يحاولونها ويسعون إليها… وتلك التي يمكنهم تطويرها، ويفترض أن وطنهم يحفزهم عليها ويفتح لهم ممرات ومجالات لتصريفها وضخها في المجهود التنموي المغربي… وهم الذين يُلحون على أن يوفر لهم بلدهم، أكثر من مجرد حسن استقبالهم كل سنة… أن يوفر لهم شروط استيعابهم، كفاءات، ومستثمرين، في المسار الإصلاحي، التنموي والتحديثي المغربي…
إنه ورش تاريخي، فتحه جلالة الملك في خطابه… ورش إنصاف مغاربة العالم… بتكريمهم وبإعادة تأهيل بنيات، آليات، مفاهيم، التعاطي معهم واستقبال تفاعلهم مع وطنهم وإدماجهم في تحدياته التنموية وترصيد إسهامهم في انتصاراته الوطنية، بالمفهوم الشامل للوطنية.
يفهم من الخطاب الملكي بأن المغرب القوي اليوم بانتصاراته الديبلوماسية وبعلاقاته الدولية، هو كذلك بكل فعالية التحام إرادة الملك بإرادة الشعب… استمرارا لثورة الملك والشعب… التاريخية والمنتجة، أمس واليوم وغدا… وذلك الالتحام يشمل عطاء وحماس الملايين، من مغاربة العالم… وهو ما يفرض إنصافهم… إنصافا لكل المغاربة… وللاستزادة من عطاءاتهم وحماسهم الوطني ضمن الحاجة لتأجيج حماس وطاقات كل الشعب المغربي، تحصينا لمكاسب الوطن وانتصارا لتقدمه…
الخطاب الملكي… كما دأب عليه جلالته، ولأنه قائد تاريخي لمشروع تنموي وتحديثي للمغرب، “لحظة” سياسية رفيعة المستوى، غنية بالدلالات ومحددة المرمى في مواكبة تراكمية لبناء تاريخي صبور متطور ومتواصل… في خطاب هذه الذكرى، كرس المصارحة مع شركاء علاقات المغرب الخارجية، لافتا الانتباه مرة أخرى، لضرورة تجديد قواعد ومفاهيم التعاطي مع المغرب الجديد، الطموح والفاعل دوليا… و في الخطاب نفسه، سنجد مفهوم الإنصاف يمتد هذه المرة إلى مغاربة العالم… في سياق “الإنصافات” التي أطلقها جلالة الملك، في التعاطي مع معضلات ؛ تحديات وطموحات مجتمعية وسياسية هامة، في تدبير قيادته لهذا الوطن… وهي إنصافات تاريخية وسيكون إنصاف مغاربة العالم تراكم نوعي فيها…